يعمّ الفساد العديد من دول ما يُسمّى "العالَم الثالث" أو "العالَم النامي" جميعَها، ودون استثناء، ومِنْ الناس مَن يَتساءَل عن أسباب تفشّي هذا المَرَض المُزمِن، رَغْم تَوفُّر هذه البُلدان على ثَرواتٍ طبيعيّة جدّ مُهِمّة، كما يَتساءَلُ البعض عن كيفية القضاء على هذا الوَباء الخطير والتَّخلُّص منه.
جميع أنواع الفساد مصدَرُها فساد النُّظم السياسيّة واستيلاء الحُكّام على زِمام الأُمور والتحكُّم المُطلَق بالشؤون العامّة، دون أن تخْتارَهم وتصطَفيَهم الشعوب لإدارة أمورها، فهؤلاء الحُكّام وطبقات من حوْلهم يَسعوْن فقط وراء مصالِحهم الشخصيّة، بعيداً عن أيّ مَصلحة عامّة، يَنهبون ثروات وخيرات هذه البلدان بِطُرق مُتنوّعة، كاختلاس الأموال التي كان الهدف منها إنشاء المشاريع التي تخدم عموم المُواطنين، ومنح العطاءات والوظائف لأناس غير مؤهلين، الموالين لِدوائر الحُكم المُسيْطِرة على كلّ شيء في الدولة وغير ذلك من أشكال الفساد... وللأسف الشديد، تنتقل هذه العدوى إلى مُختلَف الإدارات داخل هذه المُجتمعات وتتغلغل لِتشمَل صغار المُوظّفين، نَظراً لانعدام المُراقبة والمُحاسَبة لكون تفشّي هذا المَرض قد انحدَر من السُّلُطات العليا المُتحكِّمة التي نثرتْ بُذور هذه الآفَة في أوساط المُجتَمعات، فقد استطاعت تحويل الفساد من سلوك مَذْمومٍ إلى ظاهرة اجتماعية عادية مَقبولَة لدى العامِّ والخاصّ وتَتقبَّلها بكلّ أريحيَة وتتوارثها الأجيال، جيلاً بعدَ جيل.
ومن هنا يمكن القوْل إنّ الفساد، عندما يأتي من القِمّة، يصعُبُ التخلُّص منه بسهولة والحدّ من انتشاره.
إنّ القضاء على الفساد بشتّى أنواعِه، مُمكن، ولكنّ ذلك يستدعي إرادة سياسية قوية في التغيير الجذري للأوضاع القائمة، ويقتَضي ويستَوْجِب إنشاء ديمُقراطيّة حقيقيَّة، بحيثُ يتمّ تَداوُل السلطة بين أبناء شُعوب هذه البلدان، عن طريق انتخابات نَزيهة وشفّافة، تنبَثِق عنها مُؤسسات دستوريّة حقيقيّة، وذلك بعد صياغة دساتير حقيقيّة تَقومُ بِصياغتِها نُخَبٌ مُحايِدة مَشهودٌ لها بالاستقامَة، تُراعى في فُصولها وبُنودها مصالح الشعوب بتحديد صلاحيات واختصاصات جميع مؤسسات هذه الدول، تُستفتى الشعوب عليها وتُبدي رأيَها فيها، وبعد ذلك يُشرَع في انتخاباتٍ نزيهةٌ وشفّافة، لا صوريّة، تَختارُ من خِلالِها الشعوب رُؤَساءَ أكفاء يُديرون شؤونَها، ولِولايَةّ مُحدَّدة المُدّة، حُكوماتٌ تَخرُج من أَرحام البرلمانات المُنتَخبَة، قَضاءٌ مُستَقِل عن السُّلَط التشريعيّة (البرلمانات) والسُّلَط التنفيذيّة (الحكومات). وحينئذٍ سَتستقيمُ الأمور في هذه البلدان وستَأْخُذ طريقَها نحوَ التَّقدُّم والازدهار وفي كلّ المجالات والميادين، السياسيّة منها والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها وسينتفي الفساد تِلقائيّاً ويَختفي.
إقرأ أيضاً: الانقسام لا يخدُم القضية الفلسطينيّة
أمّا في ظلّ الحُكم التقليديّ المُتجاوَز، الذي تَتَولّى فيه العائلات السُّلطة وإدارة شؤون البُلدان على مَقاسِها وعلى هَواها، فلَن تعرف هذه الدول سبيلَها نحو أي تنميّة ولَن تَتَمكَّنَ من اللِّحاق بالدول المُتقدِّمة في العالم ولن تَتَبوَّأَ مَكاناً مَرموقاً بين الأمم العُظمى، في عالَم الحَداثَة والتكنولوجيّات العصريّة المُختلفة والمتنوِّعة. وسَيبقى الفسادُ مُستشرياً فيها بِكُلِّ أشكالِهِ وأصنافِه وستَظَلُّ خلْفَ الرّكْبِ، تَتحكَّم في شؤونها النُّظُم الديمُقراطيّة الغربيّة، الأرووبيّة والأميركيّة، وسوفَ تَبقى رهينَةَ التّبَعية السياسيّة والاقتصاديّة لهذه الدول وخاضِعةً لأوامِرِها ونواهيها لِكوْنِها ضعيفةً وهَشَّةً، وبذلك تبقى فاقِدةً للاستقلاليّة في قراراتها، وستَظَلُّ خانِعةً وخاضعةً لِصندوق النّقد الدولي والبنك الدولي اللّذيْن يَسعيان لإغراقِها بِديونِهما المهولةِ لا تقوى على التخلُّص منها ولا تستطيع الإفلاتَ من إملاءاتهِما الرّاميَة إلى إبْقائِها على ضعفِها وتخلُّفِها.
إقرأ أيضاً: دَعمُ المَغرب لأهالي القُدس نموذجٌ يجب الاقتداءُ به
ذلك أنَّ حُكّامَ هذه الأنظمة الشمولية يَسعَوْنَ فقط إلى الاستمرار في تَربُّع كراسي "التّسلُّطِ" و"التَّحكُّم"، ولا تهمُّهم المصالح العُليا لهذه البلدان، فقد جعلوا من الشعوب أشْبَهَ بِقُطعان أغنام يَسوقونَها أنّى شاءُوا وكيْفَما أرادوا، مُستَخدِمين في تَرويضِها ألياتِ القمْع والتّفقير والتجويع والتَّجهيل، مُنتهكين بذلك جميع المَواثِيق والأعراف الإنسانيّة، لأنهم يفتقدون إلى أيّ حسٍّ أخلاقيّ، تحميهم لدول "عُظمى" تسعى وراءَ مَصالحها وتغض الطّرف عن مُمارسات هؤلاء الحُكّام في حقّ شعوبهم؛ بلدانٌ تزخَر بثروات طبيعيّة هائلة لا تنالُ منها شعوبُها شيْئاً، جرّاء عدَم التوزيع العادل لهذه الثروات.
التعليقات