عايدة ياسين "أم علي" (1) مناضلة عراقية صلبة، تعرف الطريق الذي تريد سلوكه؛ هادئة وصادقة وهي تمرر رسائل القناعات التي جبلتها عبر تجارب النضال الصعب، صاحبة عينيين صغيرتين تتقدان دائماً. وهي لا ترفض شكوكك بل تترك الأمور مفتوحة، طبيعية في مظهرها الخارجي وأنيقة الروح، بعيدة عن الثرثرات وترهات.

نشأت أم علي في كنف أسرة وطنية مناضلة، كادحة، وثورية يسارية، رفضت الطقوس الإقطاعية والعشائرية السائدة في المجتمع، وقارعت الأنظمة العراقية الاستبدادية المتعاقبة منذ نعومة أظفارها، وناضلت من أجل حقوق الفقراء من العمال والفلاحين وشغيلة اليد والفكر، ومن أجل المساواة بين المرأة والرجل في كافة الحقوق والواجبات، حيث ارتبطت مسيرتها النضالية مع مسيرة اتحاد الطلبة العام في جمهورية العراق، وهو منظمة طلابية مهنية وطنية ديمقراطية جماهيرية، ورابطة الدفاع عن المرأة العراقية، والتي تأسست في عام 1952، وثم الحزب الشيوعي العراقي، ولذلك فهي واحدة من النساء اللواتي أفنين حياتهن في سبيل قضية تحرر المرأة ونضال الحركة الوطنية العراقية من أجل عراق ديمقراطي مزدهر، تنعم فيه المرأة بالمساواة والحرية والطفولة بالحياة السعيدة.

تأثرت أم علي في مرحلة مبكرة من حياتها بالأفكار اليسارية من خلال والدها المناضل ياسين مطر، وقد أسهمت لأول مرة في تظاهرة ضد انقلابيي 8 شباط (فبراير) 1963، ونزلت للشارع في تظاهرة أمام متصرفية لواء البصرة، وهي تندد بالانقلابيين ومجازهم بحق الوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين، وعندما فتحت النيران من قبل الانقلابيين وميليشياتهم الدموية على صدور المتظاهرين، قامت أم علي بمساعدة من تعرض للرصاص ونقله إلى البيوت القريبة ومعالجة الإصابات الخفيفة.

في خضم نضالها في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، تعرفت عايدة ياسين على رفيق دربها المناضل والقيادي الشيوعي بهاء الدين نوري (2)، وتزوجته متحدية مرة أخرى العقليات المتخلفة التي تضع القومية والدين قيداً أمام التواصل الأنساني.

إنَّ مسيرة المناضلة أم علي منذ الستينيَّات من القرن المنصرم هي عبارة عن نضال شاق وجهود كبيرة تضافرت للارتقاء بالمرأة العراقية والعربية وتعزيز مكانتها وتعميق دورها الريادي في التعليم والنضال والمشاركة الحقيقية في الحياة السياسية.

تعتبر أم علي من أبرز وأشهر المناضلات اللاتي ساهمن بشكل مباشر في النضال في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وبسبب نشاطها ودورها البارز، انُتخبت عام 1976 لعضوية اللجنة المركزية في المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي العراقي والذي انعقد في بغداد.

إقرأ أيضاً: السر عند الناجية الأيزيدية سيپان خليل

وبعد انفراط عقد الجبهة بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث، كُلفت أم علي بقيادة التنظيم في الداخل، وخاصة بعد الهجمة الشرسة على الحزب الشيوعي العراقي عام 1978، واستطاعت بجدارتها وشجاعتها أن تقوم بواجبها على أكمل الوجه رغم المخاطر الكبيرة.

اُعتقلت أم علي في بغداد عام 1980، في فترة تعرض فيها الكثير من الشيوعيات والشيوعيين للاعتقال والتغييب في مسالخ النظام البعثي الفاشي، وغُيبت مع عدد غير قليل من الشيوعيين، ثم أعلن عن استشهادها عام 1983.

إنَّ تاريخ عايدة ياسين هو تاريخ مشرف وعريق مليء بالصبر والنضال والكبرياء والتحدي ونكران الذات، وعليه لا أستطيع حصره في هذه المقالة المتواضعة، إنما أحببت أن أعرف القارئ العربي عليها من خلال إلقاء الضوء وبعجالة على شذرات من حياتها كمناضلة يسارية عراقية معروفة وناشطة في مجال حقوق المرأة، وشهيدة قدمت حياتها من أجل وطن حر وشعب سعيد.

إقرأ أيضاً: أحلام وپشتئاشان

كان حلم أم علي أن ترى المرأة العراقية تتمتع بجميع حقوقها السياسية والوطنية والثقافية والإنسانية. إنه الحلم الكبير الذي عملت وضحت من أجله وما تزال نساء كثيرات من الجيل الشاب يسعين إليه ثائرات في شوارع وساحات العراق.

أخيراً أقول: إن المناضلة عايدة ياسين هي نخلة بصراوية باسقة وراسخة، وبطلة من بطلات العراق، وقفت شامخاً وصامداً في مسالخ البعث الفاشي، وتستحق بجدارة أن نفتخر بها وبنضالها وبتضحياتها من أجل عراق حر ومزدهر، وهي وسام فخر واعتزاز لنا، جميعاً.

ــــــــــــــــــــــــ

1 ـ ولدت المناضلة عايدة ياسين مطر في مدينة البصرة عام 1944، وأكملت دراستها الإعداية فيها. تزوجت في الستينيَّات من المناضل الشيوعي المعروف بهاء الدين نوري فأنجبت منه ولدها علي. اعتقلت في عام 1980 في بغداد، واستشهدت تحت التعذيب في مسالخ النظام البعثي الفاشي. تقف اليوم هذه المناضلة الباسلة كنخلة بصراوية باسقة بجانب رفاقها ورفيقاتها في مقبرة المُغيبين (شهداء بلا قبور) الواقعة في مدينة أربيل ـ كسنزان، حيث تضم المقبرة عشرات الشواخص الرمزية لشهداء الحزب الشيوعي العراقي الذين غيب النظام البعثي الفاشي رفاتهم.
2 ـ ولد المناضل الشيوعي بهاء الدين نوري عام 1927 في قرية تكيه، وهي قرية تابعة للسليمانية، من أسرة متدينة، حيث كان والده شيخاً في أحد الجوامع. انتسب إلى الحزب الشيوعي العراقي أواخر العام 1945. أصبح نوري سكرتيراً للحزب الشيوعي العراقي بين عامي 1949 و1953. ساهم بشكل فعال في بناء الحزب الشيوعي العراقي والحفاظ عليه بعد إعدام مؤسس الحزب الشيوعي الشهيد يوسف سلمان يوسف (فهد) ورفاقه الأمجاد صارم وحازم. شكل اتحاد الشبيبة الديمقراطي في خريف عام 1950 وأعاد تشكيل اتحاد طلبة في نفس السنة، وفي عام 1952، شكل رابطة المرأة العراقية بقيادة الراحلة الدكتورة نزيهة الدليمي. اُعتقل من قبل النظام الملكي عام 1953، أطلق سراحه إثر ثورة 14 تموز (يوليو) 1958.
بعد انفضاض التحالف بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي (1973 – 1979)، أصبح بهاء الدين نوري قائداً للتنظيم العسكري للحزب في إقليم كوردستان، وبقي ضمن قيادة الحزب قرابة 40 عاماً، ثم هجره بسبب خلافاته مع القيادة ولكنه لم يهجر معسكر اليسار. كان الراحل كاتباً مرموقاً ويكتب باللغتين العربية والكوردية واستمر في الكتابة حتى آخر يوم من حياته. له مؤلفات عديدة منها روايته الشهيرة "قرية في سفح جبل"، إضافة إلى مئات المقالات والدراسات والأبحاث السياسية والفكرية. في عام 2018، رفضت وزارة الثقافة في إقليم كوردستان طبع مذكرات بهاء الدين نوري وكرر طلبه لجهات أخرى في السليمانية ورفض طلبه مرة أخرى بحجج واهية. حُرم أبو سلام من المشاركة في الانتخابات العراقية الأخيرة اسوة بمئات العراقيين من كبار السن، بسبب آلية التصويت التي تعتمد على البصمة، والتي من خلالها يصعب إخراج بصمة كبار السن، ما اضطر أغلب كبار السن إلى العودة من دون الإدلاء بأصواتهم. ساعدت هذه المشكلة في زيادة عمليات التزوير لصالح شخصيات وأحزاب معينة.
توفي نوري يوم الثلاثاء المصادف 1 كانون الأول (ديسمبر) 2020، جراء مضاعفات إصابته بفيروس كورونا، عن عمر ناهز 93 عاماً، وقد ووري الثرى بمقبرة قريته تكيه ﺤﺴﺏ ﻭﺼﻴﺘﻪ.