المشروع الوطني السعودي: من استثمار الموارد البشرية إلى التنمية الاجتماعية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تولي المملكة العربية السعودية بدعم من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان &- حفظه الله - أهمية كبيرة للموارد البشرية؛ وتنظر إلى المواطن على أنه رأس المال الأثمن والأصلح للاستثمار فيه، وترى أن الموارد البشرية هي خزّان هائل من الطاقات الجبّارة التي تفوق في أهميتها جميع أشكال الطاقات والاستثمارات الأخرى، ويتم التركيز خاصة على شريحة الشباب الواعدة، هذه الشريحة التي تعتمل في داخلها عوامل النهوض والتقدم والانطلاق، بسبب ما تمتلكه من حماسة وعنفوان واندفاع ورغبة عارمة في العمل والابتكار والإبداع، وما تتمتع به من طاقات إنتاجية كبيرة فيما لو استُثمرت بالطريقة الأمثل.
ومن ثم، فلم تتوقف المملكة عند هذا الحد، بمعنى أنه لم يقتصر دورها على معرفة أهمية الموارد البشرية في النهوض الوطني وسوق العمل، بل راحت جاهدةً نحو تفعيل دور الموارد البشرية، واستثمار طاقاتها الكامنة، من أجل تحقيق "رؤية المملكة 2030"، وبلوغ طموحاتها وتطلعاتها نحو مستقبل فوق العادة ينعم فيه المواطن بمختلف أشكال الراحة والاستقرار المعيشي، ورسم خارطة واضحة المعالم للواقع الاقتصادي، وبناء هرم متناسق للبنية الإدارية والتشغيلية في المملكة، ضماناً لضبط أنماط العلاقات بين جميع الأطراف في ميادين العمل والمنظومات الاستثمارية، وصولاً إلى تحقيق بنية وطنية متناسقة سليمة من الآفات الإدارية وعلى رأسها الترهّلات الوظيفية، والبطالة المقنعة، والفساد الإداري.
وأما عن سبل استثمار المملكة للموارد البشرية، فقد سعت ممثلةً بوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وصندوق تنمية الموارد البشرية، إلى وضع إستراتيجية محكمة ومضبوطة هدفها الإفادة من الخزان البشري السعودي واستثماره إلى أبعد الحدود، وكانت هذه الإستراتيجية دالة على عمق الوعي الإداري والاستثماري للجهات المعنية، وسعة درايتها بالواقع واستشراف المستقبل، وربطها بين الممكن والصعب والمستحيل، إذ كانت نقطة البداية من تسمية الملفات المعنية، وعلى رأسها مكافحة البطالة، ورفع الأجور، والتمهير، وعمل المرأة، والتوطين أو السعودة، والتنسيق مع القطاع الخاص.
ومن الممكن إرجاع هذه النهضة الوطنية المتمثلة في إعادة النظر إلى ملفات الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية إلى العام 2018، عندما أدركت المملكة ضرورة إيقاف مؤشر البطالة عن الصعود، ثم العمل على خفض معدلات البطالة لتصل إلى الحد الأدنى، وبحسب وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية المهندس أحمد الراجحي، وفي تصريح له قبل نحو ست سنوات؛ أي في العام 2018، فإنَّ معدل البطالة كان قد وصل إلى 13 بالمئة، وأوضح أن خطة الوزارة وفي ضوء رؤية 2030 خفض هذه النسبة، وفي ظل جهود سمو ولي العهد، إلى سبعة بالمئة في حلول العام 2030، وبالفعل بعد أربع سنوات انخفضت نسبة البطالة إلى أقل من 10 بالمئة، وهذا مؤشر قوي على سرعة تفعيل القرارات ذات الصلة، ووضوح الرؤية، والجدّية في العمل، ولم تكن توقعات الراجحي تخمينية أو استشرافية، بل مستندة إلى معطيات إحصائية واضحة، ومبنية على رؤية 2030 وما تولده مشاريعها من فرص عمل متكاثرة، وخاصة مشروع نيوم، وتجدر الإشارة إلى أن الوظائف التي تم توفيرها كانت حقيقية؛ أي لم تكن مجرد حشو القطاعات بموظفين شكليين زائدين على الحاجة.
ولا شك أن مما أسهم في خفض معدل البطالة مشروع التوطين أو ما يصطلح عليه بالسَّعْوَدة، إذ بدأت مطالبات لجنة الإدارة والموارد البشرية في مجلس الشورى تحث صندوق تنمية الموارد البشرية بدعم توطين الوظائف، ولا سيما وظائف التشغيل والصيانة، لإحلال اليد العاملة الوطنية المدرّبة محل العمالة الأجنبية، وبالتدريج، وقد أوعزت الجهات المعنية للقطاعات الخاصة والحكومية بضرورة العمل على مشروع التوطين، وأخذت بعين الاعتبار نقطة التدرّج في ذلك، فالتدرج ضروري ومنطقي؛ إذ لا يمكن بين عشية وضحاها أن يفصل موظفون ذوو خبرة عالية وكفاءة في العمل وإحلال موظفين غير مؤهلين، وبناء عليه، كان لا بد من العمل على تمهير اليد العاملة السعودية، وإخضاع الباحثين عن العمل لدورات تأهيل وتمهير وتدريب تمكنهم من ملء الشواغر الوظيفية التي حظوا بها.
وقد امتثلت الكثير من الهيئات والقطاعات والجهات إلى قرار التوطين، ونظرت إلى الموضوع بجدية، ومن زاوية المصلحة الوطنية، كهيئة الاتصالات التي علقت اشتراكات موبايلي لعدم وفائها بسعودة الوظائف التنفيذية، وعملاق النفط السعودي أرامكو وسابك والبنوك التي جعلت رفع نسبة التوطين جزءاً من معايير التوظيف فيها.
وأما عن نوعية الوظائف، أو مراتبها، فلم تقتصر على الوظائف الدنيا أو المتوسطة بل ثمة وظائف قيادية يشغل غالبيتها السعوديون كإدارة المصارف والشركات الكبرى مثل الشركات البتروكيماوية وشركات التأمين، فكانت الوظائف متدرجة، فليس من المنطقي والعقلاني أن تكون جميع الوظائف قيادية.
وبالنسبة إلى الأجور، فقد سعت وزارة الموارد البشرية إلى العمل الحثيث من أجل رفع أجور العاملين، حتى لا يكون مشروع التوطين وهمياً، بمعنى أن مجرد توظيف المواطن لا يعني بلوغ الغاية، إذ لا بد من دفع أجر مناسب له يمكنه من تغطية نفقاته، ثم إن مجرد ملء الشواغر قد يؤدي إلى ما يعرف بالبطالة المقنعة، أي الوظيفة وعدمها سواء، وهذا ما تنبهت إليه الوزارة، وأخذته بعين الاعتبار.
وقد شهد معدل الأجور في القطاع الخاص (2021 &- 2023) ارتفاعاً ملحوظاً بحسب بيانات التأمينات الاجتماعية، فارتفع متوسط أجر السعودي من 7300 ريال إلى 8400 ريال في وقتنا الحالي، فضلاً عن الحوافز المالية والمكافآت، وكانت أعلى القطاعات أجراً قطاعات التعدين وتقانة المعلومات والمصارف، وأدناها قطاعات التجزئة والتشييد والبناء.
وأما فيما يتعلق بملف عمل المرأة فإنّ وزارة الموارد البشرية تسعى أيضاً إلى تعزيز دور المرأة السعودية في سوق العمل، والإسهام في دعم مشاركة المرأة في العمل، وبالفعل، لم تكن تصريحات الجهات المعنية مجرد شعارات وهمية بل تم حقاً تفعيل دور المرأة في الخوض في غمار العمل، ووصل عدد النساء العاملات في العام 2024 في آخر إحصاء إلى ما نسبته 35,4 بالمئة، وهذه نسبة كبيرة جداً.
ولكن، وفي المقابل، واجهت الحكومة بعض المشكلات في موضوع عمل المرأة، مثل تنظيم عمل المرأة، إذ حصلت بعض التضاربات بين الوزارات، فمعايير وزارة ما قد تتعارض مع معايير وزارة أخرى من حيث عمل المرأة، ولكن نجحت وزارة الموارد البشرية بالتخلص من هذه العقبات، ووضعت تنظيماً مفصلاً لحماية حقوق المرأة، ومعرفة واجباتها، وذلك بالتنسيق بين مختلف الوزارات تجنباً للتعارضات الممكنة.
ولكن هل سيؤثر عمل المرأة وملؤها للشواغر الوظيفية في عمل الرجل وارتفاع نسبة بطالة الرجال؟ بالطبع سيؤثر، خاصة إذا كانت عملية توظيف المرأة غير منظمة وغير مضبوطة، أو لنقل: غير مقنّنة، لذلك راعت الحكومة هذه النقطة، ووضعتها في الحسبان، والمراقب الآن للمشهد يجد أن غالبية الوظائف للذكور.
وراعت وزارة الموارد البشرية ضبط التوظيف من حيث مراعاة التدرج في الانتقال من حالة إلى حالة في نقل الخبرة وتسليمها من شخص إلى آخر، أي عدم تنفيذ خطوات واسعة تتجاوز مسافات شاسعة دون دراسة، والقيام بجولات تفتيشية لمواقع العمل، وأيضاً إلزام القطاع الخاص بمراعاة السلم الوظيفي.
ومع أن هاجس الحكومة خفض معدلات البطالة، وتوطين التوظيف، وتوفير فرص عمل للعاطلين من العمل، إلا أن ذلك لم يدفعها إلى التهور، وتجاهل الأصول والمعايير الإدارية والحوكمة، إذ شرعت في إعداد برامج تأهيل وتدريب للخاضعين للعمل، أو للباحثين عن عمل، آخذة بعين الاعتبار ما يمتلكه الباحث عن العمل من إمكانيات ومؤهلات وخبرات وكفاءات، وتمريرها على احتياجات السوق لإيجاد الشاغر الوظيفي المناسب له.
إقرأ أيضاً: حنجوريَّة إيران.. والشرق الأوسط الجريح
ونبهت الوزارة على أنها ليست هي من تولّد الوظائف كما يتوهم كثيرون، بل هي تتواصل وتنسق مع الجهات التي تولد الوظائف وفرص العمل كالوزارات الأخرى، والقطاع الخاص، وصناع القرار، وقد خطت خطوات محمودة في هذا الجانب، وتظهر جهودها بعقد مقارنة بسيطة بين العام 2018 والعام 2024، ففي العام 2018 وصل عدد العاملين في القطاع الخاص من السعوديين 1800000 في حين وصل العدد في العام 2024 إلى 2386000 بحسب تصريح المهندس أحمد الراجحي وزير الموارد البشرية، وتركي الجعويني مدير صندوق تنمية الموارد البشرية.
وتجدر الإشارة إلى أن وزارة الموارد البشرية وصندوق تنمية الموارد البشرية تعطي بيانات إحصائية دقيقة جداً، وهذا يدل على مصداقيتها في التعامل والتواصل والتنسيق بين الباحثين عن العمال والباحثين عن الأعمال، وهذا منحها موثوقية في سوق العمل.
فالتوظيف إذن عملية مدروسة ومنظمة ومبنية على معطيات منطقية، تهدف إلى المحافظة على التوازن الإداري بعيداً عن الترهلات الوظيفية، فالبوصلة في المشروع الوطني للتوظيف هي في النهاية تحقيق المصلحة الوطنية للمملكة.
وأما القطاع الخاص، فإن تنسيق وزارة الموارد البشرية مع القطاع الخاص ورجال الأعمال خاصة، وإلزامهم بالعمل تحت جناحها، وتنفيذ القرارات التي تصب في مصلحة المملكة، كل هذا لا يعني هضم حقوق القطاع الخاص، أو تحميله أعباء فوق طاقاته، بل على العكس، تهتم الوزارة بالقطاع الخاص، وتعمل على توفير سبل الاستقرار والاستمرار لعمله، وتسعى إلى توفير جو من الراحة والتفاهم بين القطاعين الحكومي والخاص، ومما يسجل إيجابياً للوزارة أنها لا تنظر بمنظار واحد إلى جميع القطاعات، إذ إنها تعي أن لكل قطاع أو رجل أعمال أو جهة عاملة خصوصية أو خصوصيات معينة تختلف عن غيرها؛ لذلك اتخذت الوزارة من المرونة في التواصل مع الجهات ذات الصلة طابعاً عاماً لها.
إقرأ أيضاً: السعودية اليوم... قراءة تفكيكيّة للمشهد السعودي الراهن
وتركز الوزارة على موضوع الشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص، وتراه مكملاً فعلياً للقطاع العام، ورديفاً له، ويرى سمو ولي العهد أن رجل الأعمال هو الأقدر على فهم طبيعة المرحلة الحضارية التي تمر بها المملكة نحو "رؤية 2030، فالشراكة مع القطاع الخاص تمثل صفقة رابحة للمملكة.
وكان من ضمن بنود الشراكة مع القطاع الخاص، وفي ضوء مشروع السعودة، تخصيص بعض الوظائف ومنها القيادية للسعوديين، وهناك بعض المهن لا تُسعود، ومنح القطاع الخاص مهلة محددة لبدء تطبيق نظام السعودة بعد أن ينطلق هذا القطاع في مشروعه، وهذا أعطى انطباعاً جيداً لدى رجال الأعمال تجاه الحكومة، فلم ينظروا إلى قراراتها على أنها عقبات أمام طريقهم، بل تسهيلات منطقية.
وعملت الحكومة على دمج التقانة بالتوظيف، فاتبعت وزارة الموارد البشرية أحدث التقنيات كالذكاء الاصطناعي من أجل ضبط جودة عملها، وإنتاج تقارير إحصائية دقيقة وسريعة ونوعية في آنٍ معاً، فاستطاعت معرفة عدد الشواغر وأنماطها ومتطلباتها، وفي المقابل، معرفة الكفاءات المتاحة ومؤهلاتها وخبراتها، والقيام بعرض بيانات الباحث عن العمل على الشواغر الوظيفية عبر الذكاء الاصطناعي.
إقرأ أيضاً: ضحايا طهران.. وحظوظ إسرائيل
فأحدثت الوزارة "المنصة الوطنية للتوظيف" وتدعى "جدارات"، ومن شأنها التوفيق بين القطاعين العام والخاص والقطاع غير الربحي أيضاً والباحثين عن عمل، ووفقاً لمدير صندوق تنمية الموارد البشرية تركي الجعويني، بلغ عدد المسجلين في المنصة للعام 2024 مليونَي مسجل، وبلغ عدد الجهات المولدة للوظائف المسجلة في هذه المنصة 4800 جهة، والعدد في زيادة مستمرة.
فلقد أفادت المملكة من التجارب الناجحة للدول في تصميم منصات التوظيف، وعملت على دعم موثوقيتها في طرح الإعلانات الوظيفية، والتحقق من مؤهلات الباحثين عن العمل، ومما يدل على صحة رؤية الوزارة أنها تتابع الباحث عن العمل بعد توظيفه أو رفضه في الوظيفة، لمعرفة أسباب الرفض والعمل على تجاوزها فيما بعد.
فصندوق تنمية الموارد مبني على ثلاث ركائز أساسية تتمثل في دعم تأهيل القوى العاملة السعودية، ورفع مستوى المواءمة بين العرض والطلب، والاستدامة بعد الدعم.
إقرأ أيضاً: من أَعلام الإِعلام السعوديّ... الأمير تركي بن سلطان
هذا، ولم تغفل الحكومة عن ملف ذوي الاحتياجات الخاصة؛ إذ تعدهم ركناً مهماً في المجتمع السعودي، ولم ترَ أن الإعاقة عائقاً في طريق عملهم، بل توجهت بخبراتها وكوادرها المؤهلة لدراسة واقع هذه الفئة، وتدعيم مكانتها في سوق العمل، وتحويلها بقدر المستطاع إلى فئة منتِجة، ونقلها من نطاق الاستهلاك إلى نطاق الإنتاج، فقامت وزارة الموارد البشرية بتنظيم عمل هذه الفئة، وتأهيلها وتدريبها واستثمارها، ومن ثم انخراطها في سوق العمل مثلها مثل سائر فئات المجتمع، ودمجها قدر المستطاع في وظائف تناسب خصوصياته.
وعليه، فإن السعودية ألقت الضوء على جميع الملفات الاجتماعية، وأولت موضوع العمل وتوفير فرص العمل أهمية كبيرة، ونجحت في برنامجها الوطني الشامل في التنمية الاجتماعية واستثمار الموارد البشرية أحسن استثمار، لتحقيق رؤية 2030، وتوفير سبل الحياة الكريمة والعيش الهانئ للمواطن السعودي، وما زالت الجهود حثيثة نحو التطور والتقدم والازدهار.