لقد كانت الشهور القليلة الماضية حُبلى بالاختبارات الصعبة لبلاد فارس، وأظهرت نتائجُها الواضحة وضوح الشَّمسِ للقريب والبعيد، إخفاق إيران فيها كافةً، بل وتهشَّمت سُمعتُها السياسيَّة والعسكريَّة التي بنتها على مدار سنوات طويلة مضتْ؛ بعدما عجزت، حتى الآن، مرةً تلو الأخرى، عن الردَّ الذي ربما يحفظ كبرياءها المزعوم على الاعتداءات الإسرائيليَّة المُتعاقبة على مصالحها. فبين الهجوم على قنصلية طهران في سوريا واستهداف بعض القادة الكبار في الحرس الثوري، وتنفيذ سلسلة اغتيالاتٍ داخل الجمهوريَّة الإسلاموية طالت علماء نوويين، وانتهاءً بتصفية ضيفها إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وما تخلَّلها من عمليات اغتيالٍ أيضًا ضد قادة حزب الله، الحليف القوي لها بالمنطقة، يبقى الظهير الفارسي مكشوف الساقين لا يقوى على ستر عورته، فكيف بمَنْ يحتمي به؟!

يُمكننا الآن أن نستنتج مما سبق، أن الهيبة الإيرانيَّة تبعثرت عن آخرها، ولم يشفع لها صياحُها الزائف، ومعسول شعاراتها الكاذب، في الذَّودِ عن حصونها وقلاعها حتى أمام حُلفائها أو ما يُعرف بأذرعها بالمنطقة، فقد سمعنا من إيران تهديدات قويَّة تُنذر بمحو إسرائيل من الخريطة، ولكنه يبقى الوعيدُ والتهديدُ كلامًا دون فعلٍ، فها هي إسرائيل تسبح في الشرق والغرب كما يحلو لها، ولو أنَّ طهران صدقت في جزءٍ من خزعبلاتها المُتكرِّرة كل يومٍ؛ لما كانت الدولة العبريَّة على الخريطة، وفقًا للناعقين صباح مساء من قادة الجمهوريَّة الإسلاميَّة.

وما زال العالم على موعدٍ، حسب تصريحات كبار المسئولين الإيرانيين، مع ردٍّ يحفظ ماء وجه طهران نحسبه وشيكًا، وقد كتبته على نفسها، بعد اغتيال هنية على أراضيها، على هامش حضوره حفل تنصيب الرئيس مسعود بزشكيان، واغتيال الرجل الثاني في حزب الله، ولكن تأخُّر هذا الرد قرابة أسبوعين، ولا نعلم ما إذا كان سيقع أم أنه سيذهب أدراج الرياح كسابقه، وإن كان المشهد هذه المرَّة يبدو مختلفًا عمَّا سبق من التحذير والوعيد، فقد تغيَّرت لهجته، كما اختلفت سُبل الوقاية الإسرائيليَّة منه، للدَّرجة التي تُمنع فيها الطائرات من جميع الدول من التحليق فوق المجال الجوي للدولتين، وأيضًا إيقاف رحلات وإلغاء حجوزات، وحثّ الرعايا الأجنبيَّة بالبلدين على مغادرتهما في أسرع وقتٍ، ناهيك عن الاتهامات لبعض الأطراف الدوليَّة بالتخاذل أو رفض التعاون الأمني في عدم اختراق الأجواء.

وقد تابعت كغيري توقعات دول كثيرة وبينها قوى كبرى رد فعلٍ قوي من طهران، والتي، كما ذكرت، طالبت مواطنيها بمغادرة إيران وإسرائيل ودول أخرى بالمنطقة على الفور بما يشي بقُرب وقوع حدث جلل، خاصةً أن هذه الدول تمللك أجهزة معلومات واستخبارات تُجيد قراءة الواقع والمستقبل القريب، وفقًا للمُعطيات المتاحة على الأرض، وربما أنها أخذت تهديدات التلفزيون الإيراني محمل الجد التي أطلقها منذ أيام بأن العالم سيشهد أحداثًا مهمةً خلال ساعات، ولكن هذه الساعات لم تأتِ منذ نحو 10 أيام، لكنني ومن خلال تحليلٍ شخصيٍّ للأمر برمته أتوقع بقوة أن إيران ومعها ما يُعرف بمحور المقاومة سوف يتحرَّكون حتمًا ويُنفِّذون عمليةً عسكريَّة، حتى يغسلون جباههم التي انحنت إلى أن وصلت التراب؛ وذلك لتوصيل رسالة للمُنبطحين لهم والمُسبِّحين بحَمدهم والمُصدِّقين لأسطورة إيران التي كادت تتحوَّل إلى سرابٍ، ووجهة نظري هذه لها شواهد تُدلِّل عليها، بدايةً من التهديدات التي يُطلقها قادتها العسكريون، الذين يُؤكِّدون أن الردَّ قادمٌ لا محالة، إلى جانب المناورات التي يُجريها الحرس الثوري سرًا وعلانيةً بالتشارك مع الجيش باستخدام صواريخ طويلة المدى وغيرها من الأسلحة الدقيقة والأكثر تطورًا.

بالإضافة إلى حزب الله اللبناني، ذراعها الطولى بالمنطقة، والمشحون بطاقة حماسيَّة حاليًا بعد اغتيال فؤاد شكر في معقله بالضاحية الجنوبيَّة لبيروت، وما يملكه من ترسانةٍ صاروخيَّةٍ وطائرات مسيَّرة، وكذلك تأهُّب الحوثيين المأمورين بأمر إيران في اليمن والغاضبين من قصف ميناء الحديدة، ثم محاولة حماس إثبات قدرتها على شن هجماتٍ من جديد ضد إسرائيل تحت القيادة الجديدة للحركة بتولي يحيى السنوار رئاستها، الذي يُقال بأنه مهندس عملية طوفان الأقصى ومن الرافضين للجلوس على طاولة المُفاوضات، عكس سلفه إسماعيل هنية الذي تم اغتياله في إيران، ورغبة الحركة بشدَّة في إثبات وجودها على الأرض وعدم تأثُّرها برحيل رجلها الأول.

إقرأ أيضاً: الدراما الإيرانيَّة.. رديئة السيناريو والإخراج

ومن الشواهد الأخرى، أيضًا، التحركات الأميركيَّة في الآونة الأخيرة، برًا وبحرًا وجوًا، لدعم قدراتها الدفاعية في المنطقة، والدفع بتعزيزاتٍ شملت سفنًا حربيَّة وطائرات لحماية قواتها وحليفتها إسرائيل، وظني أن التحرُّك هذه المرَّة لن يكون كهذا الذي حدث في نيسان (أبريل) الماضي ردًا على الهجوم الإسرائيلي على القنصليَّة الإيرانيَّة في دمشق، ولكن ستكون إيران وأذرعها المُبادرين بشن عمليَّة استباقيَّة للعملية الموسَّعة التي تعد لها إسرائيل عُدّتها الآن فى غُرفها المغلقة ودائرة صُنع القرار فيها، وبالطبع بالتشاور والتنسيق مع حليفتها الأولى وداعمها الولايات المتحدة الأميركيَّة.

في المقابل، تأكيد بنيامين نتنياهو، خلال لقائه مع مجلة تايم، استعداده لما تنوي إيران وحلفاؤها القيام به من هجومٍ على بلاده، وقال إنها مُخاطرة يُدركها ولكنه لن يفر منها، وربما يستند في حديثه إلى الدعم الأميركي غير المسبوق لإسرائيل، والتي شدَّدت في غير مرة أنها لن تتوانى في حماية إسرائيل ضد أيِّ هجومٍ إيرانيٍّ أو أيِّ طرفٍ كائنًا من كان، وإن كانت هناك مُحاولات من واشنطن لاحتواء الوضع والسيطرة عليه من خلال الضغط على إيران دبلوماسيًا بواسطة حلفائها لعدم الرد، بحُجة أن العملية التي أودت بهنية لم تنل من أشخاصٍ إيرانيين، بل والتخلي عن التصعيد حتى يُمكن العودة للمضي قدمًا في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، والوصول إلى عملية تبادلٍ للأسرى، ثم تهدئة جنوب لبنان والبحر الأحمر، وهو ما تحرص عليه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وحتى المرشَّح الجمهوري دونالد ترامب وساكن البيت الأبيض السابق، ينْصب تركيزه ويدفع بكل جهدٍ لتحسين حياة المواطن الأميركي وينفض يده من مغبة الحروب؛ وأمام هذا وذاك لا يرغب رئيس الوزراء الإسرائيلي في سلك اتجاه التهدئة، ويُصر على تنفيذ الاغتيالات إلى جانب توسيع دائرة الحرب خارج غزَّة لتمتد إلى لبنان.

إقرأ أيضاً: ... وانقطع دابر إخوان الكويت!

وختامًا، فإنَّ المنطقة على صفيحٍ ساخنٍ، ووصلت إلى مستوى غير مسبوق من التصعيد وخطورة تفجُّر الأوضاع، ما يجعل الإقليم على حافة حربٍ شاملة هي الأكبر منذ عقودٍ، قد تمتد تداعياتها لتطال العديدَ من دول المنطقة، ونتائجها بالطبع لن يُحمد عقباها، فالكلُّ فيها خاسرٌ ولكن بدرجاتٍ مُتفاوتة، ولذا فإن تغليب الحِكمة هو الأنسب في هذه اللحظات العصيبة للعبور إلى بر الأمان، والاكتفاء بما آل إليه الوضع حاليًا، والعمل على وقف نزيف الدماء في غزَّة، وحماية لبنان الجريح، واليمن المُنقسم إلى جماعاتٍ وطوائف، من مستنقع حربٍ لا تقوى عليه تلك البلدان لظروفها السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والاجتماعيَّة المتدهورة للغاية.