«رجا بن مويشير»، «عبدالله الطريقي»، «ناصر المنقور»، "نجيب المانع ثم "حمزة غوث» والقادم في عقل الباحث محمد بن عبدالله السيف سادن التأريخ السياسي والإداري والثقافي في المملكة، غير متوقع، فقد تعودنا أن يدهشنا هذا المثقف والباحث الصامت بعمل رصين يقدمنا لأنفسنا نحن السعوديين قبل الآخر، فهو لا يكتب سيرة ذاتية ولا سيرة غيرية وليس تأريخنا فحسب، بل يتأبط الموضوعية والصدق والغوص في الأعماق وعيونه على«الوثائق» و«المصادر و«الأرشيف» و«المعلومات» و«الذكريات»، والتي هي البيئة البحثية الصحية المنتجة لها التوثيق الإبداعي عن رجالات الوطن في تأريخنا المعاصر.

إنه يأخذ القارئ إلى جذور المرحلة التأريخية عبر كتبه التي هي خارطة طريق إلى الذات، بل هي رسالة في الطريق إلى هويتنا السعودية، لتصل «الصورة» واضحة للأجيال القادمة ممهورة بتوقيع المتفرّد في نظم السير الغيرية ثقافيا وفكريا، كما وصفه المثقف السعودي الأستاذ خالد العضاض، إنه المنشغل بتتبع سير الرجال الذين كانت لهم أدوار في تأريخ الدول السعودية المعاصر سواء من أهل الفكر أو الإدارة أو التميز في أي جانب من الجوانب الإدارية أو الاجتماعية أو الصناعية.

رجا بن مويشير
«تزامنت رغبتي في الكتاب عن الشيخ رجا بن مويشير مع التعرف على أحدده، وهو اللواء بندر بن عبدالرحمن المويشير، الذي عرت عليه الفكرة والرغبة، فأيدها ثم نقل لي تأييد والده الشيخ عبدالرحمن بن رجا المويشير، فشرعت في البحث والكتابة».

هذا ما كتبه السيف في مقدمة كتابه "رجا بن مويشير: ودوره في ضم الجوف لحكم الملك عبدالعزيز "قبل ( 22 ) سنة، إنه هنا يؤسس لطريقته الخاصة والفريدة في تناول الشخصيات الوطنية، فهو يحرص أشد الحرص على الولوج من "الباب» بعد «الاستئذان» المعرفي من أصحاب الشأن، فهو يخطط أولا وقبل كل شيء لمعرفة باب الدخول الآمن إلى عوالم تلك الشخصيات المهمة في تأريخنا الوطني والمراد الكتابة عنها بالبحث والتنقيب في أرشيف علاقاته الاجتماعية الواسعة؛ لبناء أساليب مقنعة وعلمية تضمن "الوصول» و«التواصل» الآمن والإيجابي مع أصحاب الشأن، ليبدأ بعد ذلك في صناعة «السيرة» لهؤلاء الوطنين الكبار، لذا يتميز منجز السيف على مدار السنوات الماضية بالقبول والترحيب بل والاعتزاز ليس من قبل أصحاب الشأن المقربين من تلك الشخصيات، بل على كافة مستويات أطياف المجتمع السعودي وأعلام المشهد الثقافي والإداري والتاريخي المحلي، لأنه يجيد فن العبور فوق "الألغام» التي قد تواجه الباحث التقليدي في التعامل مع الظروف الأسرية لتلك الشخصيات ذات الحضور التاريخي المؤثر على مستوى الوطن، كما أنه يحترف فن "التوافقية» المبني على العلمية والمنهجية في البحث والتقصي عن مفاصل الحقيقة التأريخية التي تشكل «الصورة الذهنية» عن أولئك الشخصيات الفاعلة في تأريخنا الوطني.

إنه يرسم "لوحات فنية" لأبطال سعوديين يتميزون بالخلود في ذاكرة الوطن، لذا يفرح الجميع باقتناء تلك "اللوحات" عفوا بل تلك "الكتب اللوحات"؛ لتضيف إلى ذاكرته الوطنية والتي كادت تضيع في دهاليز النسيان، ويزين بها مكتبته الخاصة لأنها في الحقيقة أجمل هدية لأبنائنا وبناتنا ليتعرفوا على رجالات الوطن المخلصين من خلال كتاباته وأبحاثه الرصينة التي تسعى بأساليبها العلمية والتشويقية لتقديم أولئك الرجال العظماء الى فضاء الخلود في ذاكرة الوطن.

عبدالله الطريقي
هنا يصف الباحث علاقته المبكرة بهذه الشخصية الوطنية العظيمة التي أصبحت «أيقونة» في عالم النفط في عصره.

«منذ نعومة أظفاري، وأنا أسمع بالشيخ عبدالله الطريقي، نظرا للعلاقة العائلية فيما بيننا، وحينما تفتحت مداركي وبدأت أقرأ في التأريخ الحديث للدولة السعودية، تكشفت لي جوانب مهمة في حياة عبدالله الطريقي، إذ عرفت بعضا من إنجازاته وأحطت بشيء من عمله الإداري، فأخذت أجمع كل ما يقع بين يدي من مقالات صحفية تتضمن إشارات إليه، وأخذت أبحث عن الكتب التي من الممكن أن تتناوله أو تعرض شيئا من إنجازاته، ثم شرعت في مقابلة ومحاورة أصدقائه وزملائه ومحبيه، وكان الهدف من ذلك هو كتابة وتوثيق سيرته ومسيرته، وعرض رحلته العلمية والعملية التي بلغت الثمانين عاما».

وكعادته ينسب الفضل إلى أهله ويشكر كل من أسدى إليه معروفا ومساعدة خدمته في تحرير هذا الكتاب، حيث كتب في مقدمة هذا الكتاب سطورا، أختار منها : «وأجدني بعد إنجاز هذا العمل الذي استغرق ثلاثة أعوام، مرغما على تقديم آيات الشكر والتقدير والامتنان، لكل من مدّ لي يد العون والمساعدة، ولكل من تفضل واستجاب لمناقشته ومحاورته، ولكل من زودني بما لديه من آراء واقتراحات».

ناصر المنقور
يتكرر المشهد «النافذة» الذي أصبح سمت الباحث في التعامل مع «إرث»تلك الشخصيات الوطنية، والذي يتكرر بشكل متجدد في كل رحلة نحو عالم شخصية من شخصيات الوطن، فمن خلال هذه النافذة لا يحكي بل يرسم لنا تلك النافذة وتفاصيلها، كيف أخذته تلك الإطلالة إلى العالم الخاص لتلك الشخصية، راسما «تضاريس» رحلته الممتعة للقارئ بأسلوب أدبي جذاب، حيث يقول : «في صبيحة يوم شتائي بارد، فاجأني موظف السنترال في الشركة التي كنت أعمل بها، حينما قال: إن ناصر المنقور من لندن يريد التحدث اليك! ولم يكن لي معه أي صلة من قبل، سوى اتصالات هاتفية، وحينما تحدثت معه، ذكر لي، بتواضع الكبار، أنه قد قرأ خبرا عن صدور كتابي «عبدالله الطريقي : صخور النفط ورمال السياسة»، وأنه طلب الكتاب من الناشر في بيروت دون جدوى، فوعدته بإرسال نسخة عاجلة إليه، وتحدثت معه عن كتابة سيرته، فوعدني أن نتحدث في هذا الموضوع بعد قراءته لكتابي.

بعد أيام اتصل بي مباركا، مشيدا به، ووعدني أن نلتقي في منتجع ماربيا، حينما يلقي الصيف مراسيه على تلك الشواطئ الساحرة، لنبدأ أولى مراحل كتابة سيرته.

لم يستسلم هذا الباحث المقدام لظرف وفاة المنقور، بل حفّزه هذا الخبر المؤلم لرسم خارطة طريق نحو كتابه الجديد «ناصر المنقور : أشواك السياسة وغربة السفارة»، فيرسم لنا بحروف الإصرار والوفاء لرجالات الوطن قائلا : «قررت مواصلة فكرة كتابة سيرته، فأخذت أجمع ما يخصه في أرشيف الصحافة السعودية والعربية والأجنبية طيلة 55 عاما، وجمعت الكتب التي أشارت إليه وإلى إنجازاته، وشرعت في مقابلة عدد من أصدقائه ومحبيه، وجلت في أماكن مرّ بها، متتبعا مسار رحلته الطويلة، من مسقط رأسه، حوطة سدير، في قلب نجد، إلى شقته الوثيرة في إيتون سكوير، في لندن، وهي الشقة التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة، مرورا بالأحساء، والدمام وجدة والمدينة المنورة، وكلية آداب القاهرة وإسبانيا، بجنوبها، الأندلس، وهو المكان الذي عشقه وأحبه، وقضى فيه شطرا كبيرا من عمره، يتنفس فيه تأريخ العرب، ويقرأ على أطلاله أمجادهم الغابرة».

وكعادته تمتد خارطة الشكر وتتنوع تضاريس الامتنان متحدثا في ختام كتابه عن ناصر المنقور قائلا: «بعد إنجاز هذه السيرة، أتقدم بالشكر والعرفان لكل من مدّ لي يد العون والمساعدة، وكان للحوارات التي أجريتها مع عدد من أصدقائه ومعارفه دورها الكبير في إثراء مادة الكتاب، وفي كشف جوانب مهمة من حياته، لذلك، أتقدم بالشكر والتقدير للشيخ عبدالعزيز المحمد المنقور، على اهتمامه الكبير، وعلى تزويدي بما لديه كم وثائق ذات أهمية والدكتور عبدالعزيز الخويطر والشيخ عبدالرحمن أبا الخيل، والدكتورة سهام التركي والأستاذة شعاع المنقور، والدكتور نعيمان عثمان والأستاذة سمية ديب، سكرتيرته الخاصة».

حمزة غوث
كتب الباحث عن البيئة التي عرف من خلاله عالم السياسي المحنّك «حمزة غوث» والبوصلة التي دلته على الاتجاه الصحيح نحو «حمزة غوث» المستشار السياسي الرفيع في أكثر من عهد، وفي أكثر من مكان، قائلا: «مع أن مدة عملي لم تدم طويلا، إلا أنها كانت من أجمل الأيام وأسعدها، فقد عرفت من خلالها المدينة عن كثب، وسعدت بالتعرف على عدد من أعيانها وأبنائها. وكنا – فريق عمل الأمير – نقيم في فندق المرديان في حي سلطانة. وذات مساء عدت إلى الفندق مع نهاية مناسبة، بدأ أصحابها يتفرقون، وإذا بي أشاهد الأستاذ يوسف الميمني، وكنت أعرفه من قبل، فتبادلنا التحايا، وأخذ بيدي إلى رجل، طويل القامة، مرتديا مشلحا ذا لون بني، ويقف إلى جواره ابنه، وقدّمني إليه وقال : هذا خالد غوث، الذي تمنيت عليك كتابة سيرة والده».

كما سجل بكل شفافية آلية اعداده لهذه السيرة وطريقته التي أنتجت هذه السيرة لسياسي الدولتين والإمارة من خلال هذا الإيضاح: «أنا مدين في إنجاز هذه السيرة للأستاذ الفاضل خالد غوث، الذي كان واعيا منذ وقت مبكر، ومدركا لأهمية كتابة سيرة والده، وتوثيق تجربته السياسية الطويلة، لذلك احتفظ بعدد من وثائقه ورسائله. كما أنه سجل منه الكثير من التفاصيل ودوّنها لديه. ولولا ما احتفظ به من وثائق، وما دوّنه من روايات والده وذكرياته، لما كانت هذه «السيرة».

وكعادة السيف في منهجيته تجاه من ساعده في إنتاج هذه السير كتب في ختام سيرة حمزة غوث:..... وأخص: الدكتور سهيل صابان، والأستاذ محمود صباغ، والأستاذ عبدالله الرقيب الثبيتي، أحمد بن فهد العريفي، والدكتور طلال الطريفي، والأستاذ سليمان المطير، والأستاذ فيصل السعدون، والأستاذ قاسم الرويس، والذي زودني بعدد من الخطابات المرسلة من حمزة غوث إلى يوسف ياسين، كما لا يفوتني شكر الصديق الأستاذ عبد المجيد بن عبدالله آل الشيخ الذي كثيرا ما ألجأ إليه للتعرّف على أسماء بعض الشخصيات في الصور الفونوغرافية.

* منهجية المراجعة
لمعرفة أسلوب المؤلف في المراجعة والتعامل مع «المسودات» لتلك السير المختلفة والمتنوعة نجده يوضح طريقته في المراجعة والتصحيح في مقدمة كتابه عن «حمزة غوث» بقوله: وبعد الانتهاء من المسودة الأولية لهذه السيرة، كان لعدد من الأصدقاء المهتمين بالتأريخ السياسي والإداري والثقافي أن اطلعوا عليها، وقرأوها، أو بعضا من فصولها، وأبدى كل منهم ملاحظاته، وهي ملاحظات أثرت مادة الكتاب. فلهم مني جزيل الشكر، وأخص الأستاذ علي العميم، والأستاذ عبدالعزيز الخضر، والدكتور خالد الرفاعي، والأستاذ سعود الثنيان، والأستاذ فهد الشافي وهذا منهجه في جميع مؤلفاته؟

في الختام
تبقى هذه المؤلفات شاهدة على الجهود النوعية المبذولة من الباحث محمد السيف، من بحث مستمر ومرهق في المصادر المحلية والإقليمية والعالمية إلى المقابلات الشخصية والاتصالات والمراسلات وما ترتب عليها من ترحال متواصل، وبذل الوقت والمال في سبيل ذلك، ليقدم للمكتبة السعودية هذا الكم العظيم من المعلومات الموثقة المضمنة عددا كبيرا من التحليلات والاستنتاجات والمناقشات، مما ساعد في تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة عن تلك المرحلة المهمة من تأريخنا الوطني، خاصة وأن السيف اهتم بالشخصيات السعودية المؤثرة والفاعلة والتي رغم إنجازاتها الكبيرة على المستوى المحلي والإقليمي فإنها لا تزال مجهولة للكثيرين من المراقبين للمشهد التاريخي والإداري والثقافي في بلادنا، كما أن تلك المؤلفات قدمت وجبة دسمة للأجيال الناشئة التي لم تعش فترة السبعينات والثمانينات، ولم تدرك أحداثها التاريخية، ولم تتعرف على شيء من سير الإسلاف من رجالات الدولة السعودية، من الوزراء والمسؤولين والمفكرين، الذين تركوا بصماتهم على مسيرة الدولة منذ مرحلة التأسيس، حيث كان عملهم في ظروف صعبة مليئة بالتحديات، وكان قدرهم أن يواجهوا البدايات الصعبة، وأن يتحملوا المسؤوليات الجسام في سبيل المساهمة مع ولاة الأمر في تأسيس وتطوير هذا الكيان العظيم، وعاشوا أولئك الرجال ظروفا استثنائية مليئة بالتحولات الفكرية والسياسية في تلك المرحلة، واستمروا في العطاء الوطني الصادق في بيئة تحاذر بعض التوجهات التي صبغت فيها تلك المرحلة.

أخيراً
تذكرت سؤالا طرحه المثقف السعودي علي الرباعي على الباحث السيف قبل سبع سنوات : ومن يستهويك أيضاً للكتابة عنه؟ فأجاب: «رجالات كُثر، من أمثال المستشار السياسي الرفيع حمزة غوث، والشيخ محمد سرور الصبان، والشيخ عبدالله السليمان، والأستاذ عبدالعزيز المعمر، وغيرهم، لكن الوقت لا يُسعف، والواقع يتجاوز الأماني»، لا زال في جعبته الكثير والكثير من أجل "الوطن" ورجالاته الكبار.

المراجع
كتاب «رجا بن مويشير: ودوره في ضم الجوف لحكم الملك عبدالعزيز»
كتاب «عبدالله الطريقي: صخور النفط ورمال السياسة»
كتاب «ناصر المنقور: أشواك السياسة وغربة السفارة»
كتاب «حمزة غوث: سياسي دولتين وإمارة»

*ينشر المقال بالتزامن مع صحيفة الجزيرة السعودية