لم يعد يخفى على أحد ان القضية الفلسطينية لم تمر بمرحلة أسوأ مما هي فيه الآن، والمسألة هنا لا تتعلق بمستوى الضغوط وحجم المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني فقط، بل بحدوث تحول نوعي خطير بانتقال دفة إدارة القضية فعلياً إلى بعض المرتزقة والمتطرفين المغامرين من التنظيمات الفلسطينية، التي ارتمت في أحضان إيران، وتوظيف الأخيرة للقضية الفلسطينية كورقة في إطار صراعها الاستراتيجي والأيديولوجي الأشمل مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

صحيح أن هناك من يجادل بأن هذا التطور الخطير قد حدث بفعل التشرذم والضعف والتفكك الذي انتاب مايعرف بالنظام الجماعي العربي، ولكن هذا جزء من الأسباب وليس كلها، لأنه إذا كان العرب قد فشلوا في دعم القضية لأسباب واعتبارات معروفة للجميع ولاسيما منذ الفوضى الاقليمية التي اندلعت عام 2011، بكل ما انطوت عليه من أدوار ومؤمرات تورطت فيها قوى اقليمية وتنظيمات وميلشيات موالية وتتبع لهذه الأطراف الإقليمية، ولكن علينا أيضاً أن ندرك أن لا إيران ولا غيرها قدموا شيئاً حقيقاً للقضية الفلسطينية سوى الشعارات والخطابات النارية والكثير من الضحايا والموتى المدنيين وتشريد الأحياء منهم ، ونحن هنا نتحدث من زاوية الشعب الفلسطيني والمدنيين العزل الذين دفعوا أثماناً باهظة للغاية من دمائهم وأرواحهم وممتلكاتهم في الحرب العبثية الدائرة حالياً بقطاع غزة والتي غامر في المرتزقة الإرهابيون بمصير أهالي غزة.

تحول العرب بفعل الهجوم الإرهابي السابع من أكتوبر الذي شنته "حماس الإرهابية" من دون تنسيق حتى مع قيادتها السياسية كما ورد في بعض المصادر والتلميحات، إلى موقع رد الفعل، ووجدت الدول العربية نفسها محاصرة بدائرة من اللهب واحتمالات التصعيد وتحول بؤرة القتال في قطاع غزة إلى حرب اقليمية تحرق الأخضر واليابس، وهكذا وجدت هذه الدول العربية نفسها ضحية لاذنب لها في خطيئة قامت بها مليشيا إرهابية، وأصبحت هذه الدول العربية محاصرة بين معاناة المدنيين الفلسطينيين من ناحية والضغوط الشعبية التي تطالب هذه الدول بالتحرك لحماية الشعب الفلسطيني من ناحية ثانية، ما أوجد صورة بائسة من العجز العربي الجماعي والحديث المتكرر عن الادانات والمناشدات والمطالبات التي يعرف قائلوها مسبقاً أنها من دون جدوى.

مشكلة العرب ليست في جامعتهم كما يقال، ولا في غياب اجتماعات قمم تصدر قرارات وتتبنى مواقف مغايرة لما هو سائد، فكل هذه "أعراض" لأمراض تعشش في الجسد العربي وفي جسد القضية الفلسطينية نفسها، وفي مقدمتها بلا منازع هذه الحالة المزرية من التنازع والصراع على كرسي السلطة بين التنظيمات والمليشيات والحركات الفلسطينية، التي أرهقت دول كبرى مثل روسيا والصين في البحث عن مصالحات بين الفرقاء الأعداء المختلفين في الأيدولوجية والولاء والذين لا يزال خلافهم على حاله رغم الكارثة التي تحل بشعبهم، بدلاً من توجيه هذا الجهد الدبلوماسي الكبير إلى البحث عن تسوية للصراع مع دولة إسرائيل!

وسط هذا المشهد الاقليمي والفلسطيني البائس الذي تسببت فيه مليشيا إرهابية، لا أجد أي بصيص أمل سياسي ودبلوماسي سوى من خلال الطرح الإماراتي الذي يجسد جهود الدبلوماسية الإماراتية التي تبذل جهوداً متواصلة وجبارة من أجل انقاذ المنطقة بأكملها من كارثة محدقة، وانتزاع هذه القضية من بين أيدي المرتزقة والعابثين والمتآمين والبحث عن حلول جادة لها بعد ما تراجعت أو بالأحرى تلاشت فرص تحقيق كل المبادرات والحلول التي طرحت طيلة العقود والسنوات الماضية.

الطرح الدبلوماسي الإماراتي الذي يواجه بحملة انتقادات مشبوهة من جانب مرتزقة وتجار القضية والمستفيدين منها إقليمياً، ينطلق من تفكير شمولي يلم بكافة جوانب الأزمة ويتعرض بجرأة تحسب للدبلوماسية الإماراتية وتبقى نقطة مضيئة لها في صفحات التاريخ، حيث لم تتوقف الإمارات عند الجانب الانساني والاغاثي، الذي يشهد بقدرتها وفاعليتها وتركيزها على تقديم دعم حقيقي وفعلي للشعب الفلسطيني، مهما كانت التحديات والانتقادات وحملات التشويه والاساءة التي تتعرض لها لأسباب ودوافع معروفة للكثيرين، بل تتجه مباشرة إلى تقديم رؤية سياسية/ استراتيجية للحل من خلال محاولة إحداث تغيير جذري وكلي في مسار الصراع والتوجه نحو اقامة دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل، من خلال استراتيجية تتصدي لدائرة العنف السائدة ووضع أسس جديدة لمستقبل يضم الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.

ومن تابع المقترح الإماراتي الذي أعلن مؤخراً يدرك أنه ينطوي على رؤية واقعية تعالج مختلف جوانب الأزمة، انسانياً وسياسياً وأمنياً، وتنهي هذا الانقسام الفلسطيني الكارثي الذي فتح الباب لما يحدث حالياً في قطاع غزة، وتنهي دور الميلشيات والتنظيمات المتطرفة وتعالج فساد السلطة وتعيد هيكلتها وفق قواعد ومعايير جديدة تضمن تحقيق الطموح المشروع للشعب الفلسطيني في بناء دولته.

الرؤية الإماراتية متوازنة للغاية وتتضمن إلزام جميع الأطراف بتحمل مسؤولياتها من أجل حل الصراع، بما في ذلك وقف بناء المستوطنات وانهاء العنف والتعاون الاقليمي والدولي والتزام أمريكي صريح بتحقيق حل الدولتين وتشجيع الاصلاحات الفلسطينية.

بلاشك أن الدبلوماسية الإماراتية تتعامل بفاعلية وصمت من أجل انهاء هذا الصراع من خلال استعادة زمام المبادرة واسترداد هذه القضية التي اختطفت بيد مرتزقة ومتطرفين فلسطينيين لمصلحة أطراف إقليمية غير عربية، وأهداف غير تلك التي يسعى إليها الشعب الفلسطيني، وتتحمل الإمارات في سبيل ذللك اتهامات بالخيانة والعمالة وتواجه طوفاناً من التخوين والشتائم عبر منصات الاعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها تمضي في طرح رؤاها وتحمل مسؤولية رسالة تحملها على عاتقها في الدفاع عن القيم الانسانية والحضارية ورفع المعاناة وتقديم الدعم الانساني والاغاثة لكل محتاج، ويزداد هذا الإصرار بعدما بات واضحاً أن ترك الأمور تمضي في مسارها الحالي الذي يتابعه الجميع وربما يتوقعه مآلاته الكارثية المنتظرة، يعني هذا أن هناك كارثة انسانية وأمنية أكبر وأضخم تنتظر منطقتنا، لذلك فإنني ـ كمراقب ـ أتصور أن هذا الجهد الاماراتي بات يمثل طوق الانقاذ الوحيد المتاح للخروج من دوامة العنف وسفك الدماء التي لم تتوقف منذ نحو عشرة أشهر.