كتَّاب إيلاف

الصحراء المغربية: الحتمية التاريخية والسياسية للوحدة الوطنية

مدينة الرباط
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

طوال خمس سنوات من العمل الصحفي الميداني في المغرب، بين عامي 2005 و2010، حيث شغلت منصب مدير مكتب قناة MBC ومكتب مجلة "زهرة الخليج"، انغمست في أعماق المشهد المغربي بمختلف أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية. وبينما مررت بالعديد من القضايا التي شكلت ملامح التجربة المغربية، يبقى ملف الأقاليم الجنوبية هو الأكثر تعقيداً وسحراً في تفاصيله، والأكثر أهمية في فهم جوهر الوحدة الوطنية المغربية.

في هذا الملف لم أكن مجرد مراقب، بل غصت في عمقه، وها أنا أضع بين أيديكم خلاصة تجربة وخبرة تستحق أن تُروى.

الصحراء ليست مجرد امتداد جغرافي أو ورقة سياسية عابرة؛ إنها عمق الهوية المغربية وجذر من جذور الوطن الذي ارتبط عبر قرونه بالتاريخ المشترك والنسيج الثقافي الذي لا يقبل التجزئة. لقد شكلت الصحراء على الدوام رمزاً للسيادة المغربية، ومنطلقاً للوحدة الوطنية التي تتجاوز كل الحدود المفتعلة، في هذا السياق تتجلى القضية ليس فقط كصراع سياسي تحركه أطراف خارجية، بل كتحدٍ للوعي الإنساني، حيث تنكشف من خلالها حقيقة الارتباط بين الشعب المغربي وأرضه في مواجهة الحملات المغرضة التي تستهدف زعزعة هذا الرابط.

عندما يُنظر إلى الصحراء من منظور التاريخ، تبدو مغربيتها حقيقة صلبة، لا مجرد خطاب سياسي يُساق للدفاع عن موقف. فالوثائق التاريخية تثبت بلا أدنى شك أنَّ الصحراء كانت دائماً جزءاً من السيادة المغربية، لكن أكثر من ذلك، فإنَّ بيعة القبائل الصحراوية للسلاطين المغاربة تُعتبر شهادة حية على هذا الرابط العميق بين الأرض والشعب. وفي تلك العلاقة، يتجاوز مفهوم السيادة حدود الجغرافيا ليصبح التزاماً معنوياً وروحياً، يُعبر عنه بالتواصل المستمر عبر القرون. هذا الالتزام المتبادل يضع مغربية الصحراء في إطارها الحقيقي، كمسألة هوية أكثر منها مجرد قضية سياسية.

من زاوية أخرى، فإنَّ الجدل حول الصحراء يكشف عن تصادم بين رؤيتين متناقضتين: رؤية المغرب الذي يستثمر في التنمية والبناء، ورؤية الأطراف التي تسعى لتفتيت النسيج الإقليمي عبر خلق كيانات وهمية لا تستند إلى أي شرعية تاريخية أو واقعية. إذا تأملنا هذه المعادلة، نجد أنَّ الصراع ليس فقط على الأرض، بل على فكرة السيادة ذاتها، وكيف تُمارس في عالم معقد تتداخل فيه المصالح الإقليمية والدولية. هذه الحملات المغرضة ليست سوى انعكاس لمحاولات يائسة لإعادة صياغة الواقع بما يتماشى مع أجندات لا تخدم سوى الفوضى وعدم الاستقرار.

إقرأ أيضاً: ما التداعيات الأخلاقية لوصول الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة الوعي؟

لكنَّ المثير للإعجاب هو كيفية تعامل القيادة المغربية مع هذه القضية عبر العقود. الملك الحسن الثاني، بعبقريته السياسية ورؤيته البعيدة، استطاع أن يحول قضية الصحراء إلى عنصر موحد للشعب المغربي. المسيرة الخضراء لم تكن مجرد خطوة سياسية، بل كانت تجسيداً عميقاً لفكرة أنَّ الأرض ليست مجرد حدود، بل هي جزء من كيان وطني يستمد قوته من تاريخه وشعبه وفي تلك اللحظة، أثبت الحسن الثاني للعالم أن القوة الحقيقية تكمن في السلمية وفي القدرة على حشد الإرادة الوطنية.

اليوم، تحت قيادة الملك محمد السادس، تتواصل هذه الرؤية بنفس الحزم ولكن مع أدوات جديدة تتلاءم مع تعقيدات العصر الحديث. الملك محمد السادس أرسى دعائم الدبلوماسية الاستباقية، حيث لم تعد قضية الصحراء مجرد دفاع عن حق، بل أصبحت نموذجاً لكيفية إدارة النزاعات بطرق مبتكرة. مبادرة الحكم الذاتي ليست فقط حلاً سياسياً، بل تعبير عن قدرة المغرب على تقديم رؤية متوازنة تجمع بين السيادة الوطنية واحترام التنوع المحلي. من خلال هذه الخطوة، استطاع المغرب أن يُظهر مرونة كبيرة في التعامل مع قضيته دون التخلي عن مبادئه الأساسية.

دبلوماسية الملك محمد السادس لم تقتصر على الجانب السياسي، بل امتدت إلى الاستثمار في بناء الصحراء كجزء حيوي من المغرب. المشاريع الكبرى التي تُنجز في الصحراء، من الموانئ إلى الطاقات المتجددة، تُبرز كيف يمكن لقضية يُراد بها تفتيت دولة أن تتحول إلى عنصر قوة ودفع نحو المستقبل. هذه الرؤية التنموية تُثبت أنَّ السيادة ليست فقط مسألة قانونية، بل هي فعل يومي يُمارس من خلال تحسين حياة الناس وربطهم بوطنهم.

إقرأ أيضاً: إثيوبيا ومصر والسودانان في مواجهة المصير

القيادة المغربية ليست فقط حكيمة في الحاضر، بل تمتلك بعداً استشرافياً يضمن استمرارية الرؤية. ولي العهد مولاي الحسن الثالث، بحضوره البارز وكاريزميته المتفردة، يعكس استمرارية القيادة الرشيدة في المغرب. جيل جديد من القادة يستعد لاستلام الشعلة، محافظاً على الوحدة الوطنية ومُستلهماً من إرث أجداده الحكمة والصلابة. دوره في المحافل الدولية يشير إلى مغرب جديد قادر على المزج بين تراثه العريق ومتطلبات العصر الحديث.

إنَّ الأطراف التي تسعى لتشويه الحقائق حول مغربية الصحراء تواجه اليوم واقعاً لا يمكنها تجاوزه. التغيرات الدولية والدعم المتزايد من القوى العالمية تُظهر أنَّ الحقيقة تفرض نفسها مهما حاول البعض الالتفاف حولها. القنصليات التي فُتحت في العيون والداخلة ليست مجرد أفعال رمزية، بل هي شهادة واضحة على أنَّ العالم يدرك أن الصحراء جزء لا يتجزأ من المغرب.

إقرأ أيضاً: الصين ستلتهم تايوان... عاجلاً أم آجلاً

القضية الوطنية ليست فقط مسألة سيادة، بل هي امتحان يومي للقيادة، للشعب، وللرؤية المستقبلية. في هذا السياق، أثبت المغرب أنه ليس مجرد مدافع عن أرضه، بل صانع لنموذج يُحتذى به في كيفية تحويل التحديات إلى فرص. الصحراء المغربية ليست محل نزاع، بل هي نقطة ارتكاز لوطن يمتد بجذوره في التاريخ ويزدهر بتطلعات أبنائه نحو المستقبل.

ختاماً، يمكن القول إنَّ الصحراء المغربية ليست موضوعاً للنقاش أو التفاوض، بل هي حقيقة تاريخية وحاضر مستدام ومستقبل مشرق. المغرب، بحكمته ودبلوماسيته، استطاع أن يحول هذه القضية إلى نموذج دولي يُجسد كيف يمكن للحق أن ينتصر، ليس فقط بالقانون، بل بالعمل، والإرادة، والبناء المستمر. هذا هو درس المغرب للعالم: أن السيادة ليست مجرد كلمة، بل فعل دائم يتجلى في كل خطوة نحو التقدم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف