ما بعد سقوط الأسد: مخاوف كردية واقعية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إلى روح صديقي الشاعر محمد فتحي الحريري ابن بصرى الحرير!
ما يُعرف بإسقاط النظام السوري يحمل في طياته من التساؤلات أكثر مما يحمل من الحقائق الواضحة. لم يكن مشهد سقوط المدن السورية بشكل متتالٍ وبهذه السهولة أشبه بسقوط أحجار الدومينو حدثاً طبيعياً ناتجاً عن إرادة شعبية محضة أو ثورة خالصة. إذ إن نظاماً بُنيت أسسه على تحالفات دولية وإقليمية متينة، وحصل على دعم سياسي وعسكري واقتصادي واسع من دول كبرى كإيران وروسيا، لا يمكن أن يتهاوى بهذه الطريقة دون ترتيبات خفية قد تصل إلى حد الاتفاقيات السرية، سرعان ما باتت خيوطها تظهر تباعاً، وهذا ليس انتقاصاً لإرادة الثوار الشجعان الذين واجهوا أعتى نظام دكتاتوري في العالم، وتمكنوا من إسقاطه الذي تأجل إعلان سقوطه إلى الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024 بكفالة دولية للأسف، تم سحبها الأحد!
إنَّ قراءة دقيقة للمشهد تكشف أنَّ ما جرى هو أقرب إلى "عملية تسليم واستلام" منه إلى انهيار تام لنظام الأسد الذي سقط مع أول صرخة: الشعب يريد إسقاط النظام من أقصى سوريا إلى أقصاها. قوى المعارضة التي كان يُفترض أن تكون البديل، أُشبعت اختراقاً من الداخل، واحتُويت من الخارج، ما أدى إلى إخفاقها في تقديم نموذج قابل للحياة. ومن هنا، يظهر السؤال المحوري: هل ما حدث كان سقوطاً فعلياً للنظام أم أنه إعادة تموضع له تحت غطاء مختلف، يضمن استمراره في التحكم بمصير سوريا بطرق ملتوية؟
صفقة الأسد والمخرج الآمن
ثمة أنباء متواترة تؤكد أنَّ رأس النظام بشار الأسد وشقيقه ماهر قد ضَمِنا مخرجاً آمناً عبر صفقة دولية، يُرجح أنها تمت برعاية روسية وإيرانية، وبرضا دولي ضمني. إذ تشير الدلائل إلى أنَّ النظام لم يُسقط عسكرياً، بل أعيد إنتاجه في قالب جديد يضمن استمرار النفوذ ذاته بوسائل أخرى. لم يكن خضوع حلفاء الأسد، كإيران وروسيا، للواقع إلا بفعل معادلات صعبة، إذ إنهم، لطالما استوعبوا دروس جنوب لبنان، وأدركوا أنَّ أيّ محاولة لمقاومة السيناريو الدولي الجديد ستكون مكلفة للغاية، لطالما صورة حسن نصرالله وخلفائه كانت ماثلة أمام أعين هؤلاء القتلة وتؤرقهم.
لكن لماذا تقدم الدول الكبرى على هذه الترتيبات؟ يبدو أنَّ الهدف ليس فقط إزاحة الأسد كفرد، بل تفريغ سوريا من قوتها ومن مكوناتها، لتتحول إلى ساحة فارغة مهيأة لاستقبال مشاريع الشرق الأوسط الجديد.
الشرق الأوسط الجديد: سوريا كساحة لإعادة التشكيل
ما نراه اليوم في سوريا قد يكون بداية لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تتردد أصداؤه في الكواليس السياسية منذ سنوات. إذ لم يكن تدمير المدن السورية وتشريد سكانها وتفكيك نسيجها الاجتماعي محض صدفة، بل هو تنفيذ دقيق لمخطط طويل الأمد. المشروع يستهدف استبدال القوى التقليدية بمجموعات متناحرة، وضمان أن تبقى سوريا وشعوبها مجرد أدوات بيد القوى العظمى.
لطالما كان الكرد من أبرز ضحايا هذا المخطط. إذ إن العقد الأخير شهد تهجيرهم القسري، تدمير قراهم ومدنهم، وتشويه صورتهم في الإعلام المحلي والدولي. قوائم المعتقلين السوريين، التي تُكشف تدريجياً، تحمل أسماء كثيرة من الكرد الذين دفعوا ثمناً باهظاً لوقوفهم في وجه الطغيان. ومع ذلك، تُستخدم ذرائع واهية لتبرير التحريض ضدهم، من بينها الحديث عن علاقتهم بالنظام أو بقسد، متجاهلين أن الكرد وبالفطرة كانوا معارضين للقوى العنصرية التي حاربتهم منذ زمن جمال عبدالناصر ومروراً بعهد البعث ولا سيما في عهد الأسدين الابن والأب.
التحريض ضد الكرد: جذوره وأبعاده
التحريض ضد الكرد ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لسياسات نظام البعث التي رسخت العنصرية كأساس للحكم. إذ إن هذا النظام لم يكتف بحرمان الكرد من حقوقهم القومية، بل عمد إلى استغلالهم كأداة لتبرير فشله في تحقيق مشروع دولة موحدة عادلة. ما نشهده اليوم في دير الزور ومنبج والرقة هو استمرار لهذا النهج. يتم شيطنة الكرد جماعياً بسبب وجود قسد، في حين أنَّ العلاقة بين قسد والنظام ليست سوى امتداد لعلاقات معقدة تشبه تلك التي جمعت النظام بداعش أو بعض الفصائل المسلحة.
لكن، أليس من الواجب على قادة إسقاط النظام &- لو كان الهدف فعلاً إسقاط النظام &- أن يمنعوا انزلاق الأمور إلى هذا المستوى؟ ألم يكن الأجدى التفاوض مع قسد لضمان خروجها من المناطق غير الكردية بعد القضاء على داعش؟ إذ إن بقاء قسد في تلك المناطق لم يكن ضرورياً، بل منح الذرائع للتحريض ضد الكرد ككل، مما يهدد بخلق فتنة أكبر تضرب النسيج السوري برمته.
الكرد وسؤال المصير بعد الأسد
الشعب الكردي، الذي عانى من التهجير، والاضطهاد، والتهميش لعقود، يجد نفسه اليوم أمام مستقبل غامض. فإذا كان سقوط الأسد، أو بالأحرى إعادة تموضعه، قد أتى كجزء من ترتيبات دولية، فإنَّ حقوق الكرد تبدو مرة أخرى رهينة للمصالح الإقليمية والدولية. لطالما كانت القضية الكردية في سوريا جزءاً من معادلة أكبر تتجاوز حدود الدولة السورية لتشمل تركيا، إيران، والعراق، مما يجعل تحقيق مطالب الكرد أمراً مرتبطاً بقدرة هذه الدول على التوصل إلى تفاهمات شاملة.
لكن، ما لم يدركه الكثيرون، هو أن استمرار التحريض ضد الكرد سيؤدي إلى نتائج كارثية ليس على الكرد فقط، بل على مستقبل سوريا ككل. إذ إن الحل الوحيد الممكن يكمن في الاعتراف بحقوق الكرد كشريك أساسي في بناء الدولة السورية الجديدة، بعيداً عن سياسات الإقصاء والتمييز.
أفق جديد أم طريق مسدود؟
بعد سقوط الأسد، أو إعادة ترتيبه، تبقى المخاوف الكردية أكثر حضوراً من أي وقت مضى. فالمشهد الحالي يكشف أنَّ سوريا ليست إلا ساحة مفتوحة للصراعات الدولية، حيث تُستخدم الشعوب كبيادق في لعبة أكبر منهم. إذا لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية لإعادة بناء سوريا على أسس عادلة وشاملة، فإن المخاوف الكردية ستظل قائمة، وسيظل مستقبل البلاد بأكملها معلقاً على خيوط المصالح الدولية.