الهلال الخصيب وداعاً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الهلال الخصيب لم يعد خصيباً، فقد تصحّر وزحفت الرمال عليه. ولم يعد هلالاً، فقد تآكل بفعل فاعل وأصبح أقرب إلى محاق، بعد أن كان مرشحاً ليصبح بدراً. المحاولات الدؤوب جارية لمحو بقية المعالم التي كان أرساها هنري بريستيد، أول من أسس لتسمية "الهلال الخصيب"، من ساحل الأبيض ودلتا النيل في الغرب إلى جبال زاغروس في الشرق مروراً بفينيقيا وآشور، أي شمال مصر وفلسطين (التاريخية) وسوريا (الكبرى).
سكان دائرة الرمال البيضاوية أيقنوا مبكراً الخطر المحدق بهم، فيما لو استمر زحف تأثير بؤر هذا القوس الناهض في هذه البقعة الخضراء، التي بدأت في حصارهم بما يشبه هلالاً يحوط بصحرائهم من الغرب والشرق والشمال. هذه البؤر باتت تضيء في القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، وبدأ نورها يشع ثقافة وازدهاراً: مسرحاً وسينما ومطابع وترجمة وصحافة وشعراً ورواية ونقداً وقطناً وقمحاً وسكك حديد وكهرباء.
كانت هذه البؤر تستمد قوتها من الاتصال المباشر بالمناطق الزاهرة في العالم الجديد، التي بدأت تجني ثمار الثورة التي اندلعت في كل أوروبا وأزاحت في طريقها الهادر كل ما قد يعيق هذه الشعوب عن بلوغ أهدافها في النهضة. وكان سكان الصحراء على يقين أيضاً أن أعراق قاطني هذا القوس (وهم حسب الجغرافيا البشرية من الفينيقيين والآشوريين والفراعنة) تكن لهم عداءً كامناً بسبب الفارق الحضاري والثقافي الشاسع.
بالإضافة إلى حتمية المبدأ الأزلي الذي رافقهم وهو الصراع الحتمي المستدام مع كل الأعراق التي وجدت في طريقهم؛ يهود وفرس وإغريق وروم وأمازيغ وقبط ونوبيون وأفارقة وآشور وكلدان (نصيرنا في هذا الطرح هو ابن خلدون)، فلم يتواءم العرب مع أي عرق قبل الإسلام. أما بعد الإسلام، فقد وجدوا الكثير من التخريجات لتبرير هذا الصدام مع الجميع، حتى من توحدوا معهم في العقيدة (ولا يزال ابن خلدون هو مصدرنا الوثيق).
إقرأ أيضاً: حرب الملائكة
من هنا بدأ الصراع بين التيارين: تيار النهضة القومي الذي استشرى في الهلال الخصيب وأعراقه المجبولة على أنماط من الثقافة والرقي، يشهد لهم به رصيدهم الحضاري الضارب في التاريخ؛ وتيار العرب الأقحاح، قبائل عدنان وقحطان سكان شبه دائرة الرمال البيضاوية المسماة بجزيرة العرب.
منذ أوائل القرن المنصرم، تبلور الصراع بين الفريقين، كل يدافع باستماتة عن هويته وثقافته وعرقه. العرب أيقنوا أن ثقافاتهم في خطر داهم إذا ما استمر دعاة القومية من الساعين لتذويب التضاريس الجغرافية والثقافية الوعرة بغرض إنشاء كيان ينهض على دعائم العدل والمساواة.
إقرأ أيضاً: السودان... مأساة "الزول" الحائر
ولا غرو أن يكون الداعية الأول لهذا التيار هو المسيحي ابن سوريا الكبرى أنطون سعادة، الذي رسم خريطة واضحة المعالم لكيان لو قدّر له أن يرى النور لكان أمة عظيمة. لكن أعداءه اجتمعوا عليه، وقتلوه كما قتلوا كل من سبقه وتلاه وكل من تجرأ على التفكير في مستقبل أفضل لهذه المنطقة المنكوبة.
ومع أنني لست من أنصار التفسير التآمري للأحداث، إلا أنَّ أحداثاً بعينها تضطرنا لإعادة النظر في المبدأ. فعندما حاول جمال عبد الناصر إحياء نفس الفكرة، اتحد ضده نفس الأعداء وبنفس الأسباب. في هذه المرة، لم يقتلوا شخصاً، بل قتلوا أمة بأكملها.
إقرأ أيضاً: الكراهية النائمة والسلام الهش
وضاعت آخر الفرص إلى الأبد، وحدث ما حذر منه أنطون سعادة وتوقعه جمال عبد الناصر. تقاتل سكان دائرة الرمال، وقسموها بين القبائل، واحتل الأميركيون نصفها بمنصات الصواريخ ومنصات النفط، والنصف الباقي بات تحت رحمة الفرس. تقاتل الشوام وضاعت فلسطين وضاع ما بين النهرين وتشظّت سوريا الكبرى. ونجح العرب في طرد اليهود من بلادهم وأهدوهم فلسطين وطناً.
ها هم الآن على نفس الدرب سائرون مع بقية الأعراق: قتل وذبح وتهجير لتطهير بلاد العرب، ليضيفوا خصلة جديدة إلى سابق خصالهم التي سردها ابن خلدون بالتفصيل؛ وداعاً لهلال أنطون سعادة، وداعاً لهلال جمال عبد الناصر، وداعاً دمشق، وداعاً الهلال الخصيب.