في رحلة الحياة، بدّلت محل إقامتي ثلاث مرات، واحدة منها كانت بسبب إحساس طالني منذ أول يوم وطأت فيه قدمي مسكني الجديد. كان لي جار ملاصق، وكعادتي بادرت بمراسم التعارف المعهودة. قابلني بمشاعر جافة باردة التبست عليَّ دلالاتها حينها، لكنني لم أعر الأمر اهتماماً، ظناً مني أنَّ الأيام كفيلة بإذابة أي مشاعر سلبية مع بدء العلاقة الإنسانية والتعامل اليومي. لكن الأمر لم يكن كذلك، فقد ظل الرجل على حاله رغم محاولات عدة بذلتها، باءت كلها بالفشل.

كان يقابلني متجهماً، ويرد السلام ــ إن رد ــ ببرود وتجاهل. والحق أنه لم ينلني منه أذى مباشرة، لكن السلام السائد بيننا كان "سلاماً هشاً"، وجثم على صدري شعور مؤلم أنَّ خلف هذا الجدار من يكرهني كراهية نائمة أو خامدة، وبالتالي يضمر لي شراً. فالكراهية والشر توأم ملتصق، وبدأ الفكر يضطرب بالهواجس، خصوصاً أنني كنت أغيب عن أسرتي بحكم عملي. وقد كنا في منتصف الثمانينيَّات، وما أدراك ما الثمانينيَّات من القرن الماضي، وأنا أحدثكم من مصر. لم أتحمل العيش في بيئة من الكراهية، حتى وإن كانت مستترة، فاتخذت قرار الرحيل رغم تبعاته التي كلفتني الكثير.

إقرأ أيضاً: في انتظار الموت

هذه المقدمة سردناها كمدخل لتأثير العيش في بيئة تحكمها مشاعر الكراهية الضاغطة على نمط الحياة. فالكراهية مرجل يغلي، وإن استمر إشعال النار تحته، أو بمعنى آخر "الشحن المستدام"، فحتماً ستأتي لحظة الانفجار. الكراهية يغذيها الظلم، العنصرية، الطائفية، التهميش، التمايز، خصوصاً لو تم تغليف كل ذلك بغلاف ديني. وشعور الكراهية هو شعور تتوقف فيه مسارات الحياة الطبيعية؛ من فكر وإنتاج وسلامة وصحة، وما ينطبق على الأفراد يسري على الشعوب.

إقرأ أيضاً: السودان... مأساة "الزول" الحائر

إنَّ نظرة سريعة على دائرة الدمار المشتعلة حولنا، تبين أنَّها كلها بلا استثناء ناتجة عن انفجار مراجل كراهية تغلي منذ عقود، وقد حانت لحظات انفجارها على حدودنا في الجهات الأربع. وإن كانت كلها خطيرة، إلا أن أخطرها تلك الجريمة الشنعاء التي تجري أحداثها الدامية على شمالنا الشرقي، حيث تقع جريمة إبادة منظمة مع سبق الإصرار والترصد، فاقت ما اقترفه مجرمو الحروب على مر التاريخ. وبعد أن ينقشع غبار الدمار، ستتضح معالم هذه الجريمة البشعة، وستظهر للعالم مشاهدها ثلاثية الأبعاد: قتل، تدمير، إبادة ارتكبها فريق من المهووسين بكبرياء القوة. وسوف تنقشع سحابة العنصرية البغيضة من العيون عاجلاً أو آجلاً، ويظهر بحر الكراهية الهادر يحيط بهم من كل اتجاه، وهو سلاح نافذ لا تعوقه الدروع أو المضادات. ولا أدري كيف تعيش مجموعة من البشر وسط بحر من الكراهية حفروه بأيديهم بمعاول التجبر والاستعلاء. وإن غداً لناظره قريب.