عبرتُ النصف الأول من العقد الثامن ودخلتُ في حقبة أراذل الأيام، ولا شك اقتربت النهايات، ومن ثم يتوجب النظر إلى الوراء لنتأمل في هذا الشريط الطويل المضني، نتأمل فى رحلة الآلام والأحلام والأوهام، رحلة الفشل والسقوط والإحباط ووهم النجاح، رحلة الجراح المثخنة، رحلة النفس القلقة، رحلة الروح المعذبة وتوأمها الملتصق الحزن والألم، رحلة النهايات المحتومة، فيوم ماتت أمي وأنا في الثامنة انتهت طفولتي، ويوم مات أبي وأنا في الثامنة عشرة توقف الزمن، وما بين الثامنة والثامنة عشرة عشت سني طفولة ومراهقة مرتبكة تراوحت بين الحب الأول البريء وبين تجارب الجسد البكر المندفع التي كلفتني الكثير.

وأصبحت أؤرخ بقبل وبعد أيلول (سبتمبر) الحزين، ففي هذا الشهر رحل أبي ولم يكن قد أكمل العقد الرابع، وكنا في الاسبوع الأول من الدراسة في نهاية المرحلة الثانوية، وانقلبت حياتي رأساً على عقب، وفي سبتمبر التالي، وكنا عقب النكسة الكبرى، وبعد تدهور الأحوال وبالكاد حصلت على البكالوريا بدرجات بخسة وبشق النفس، التحقت بمدرسة عسكرية ضماناً لمأوى وهرباً من واقع مؤلم ومستقبل غائم، فقد أصبحت وحيداً فقيراً بائساً يائساً ولم يكن هناك من يسأل عني بعد أن لفظني الجميع بعد رحيل أبي (بالطبع عدا قليلين حسب إمكاناتهم)، وصفعتني الحياه على وجهي وكانت الصفعة قوية، حبست دموعي وواصلت المسير فلم يكن ثمة اختيارات متاحة.

في أوائل العقد الثالث أنهيت دراستي والتحقت بالخدمة وحصلت على أول راتب ودخلت الحرب وتزوجت وأنجبت ولم يفارقني توأمي الملتصق الحزن، وظلت مسحته مطبوعة على ملامحي، ولم تفلح في إزالتها أي نقلات حياتيَّة تبدو من بعيد مبهجة، واستهلكت هذه الحقبة ثلاثة عقود أخرى.

وفي مستهل العقد السادس كنت قد تقاعدت من الخدمة العسكرية وبدأت رحلة استشراف القادم المخيف؛ الركون العاطل، لكني قاومت بشراسة، ساعدتني خبراتي المتراكمة وانضباطي وربما شيء من منطق مرتب ومظهر أنيق في غير تأنق وملامح مقبولة، استهلكت العقد السادس والسابع فى العمل: عمل حكومي وقطاع خاص وقطاع أعمال وأنشطة خاصة وبنيت منزلاً جديداً، وبالطبع تسلل الزمن على خلايانا وفعل فعلته، مستغلاً انشغالنا بالركض خلف سراب، وحتى هذا السراب لو تحقق هل كان يساوي ويستحق!

وها عدنا من رحلة الأوهام والأحلام، عدنا كما جئنا عرايا، فقد جاء الخريف، عدنا كما جئنا فرادى، فقد تساقط الأحبة في الطريق، عدنا قابضين الريح والجمر والأحزان، عدنا نجتر ذكريات تآكلت حوافها من زمن، ذكريات سبعة عقود ونصف من اللهاث المضني، والآن أنا وحيد في دار مسنين، ازدرد أقراص الضغط والسكر، ولم أعد مهماً في حياة أحد، فقط أنا فى انتظار الموت.