أسباب كثيرة تميزني عن الكثيرين ممن تناولوا الشأن السوداني، بالطبع عدا أصحاب القضية أنفسهم لأنهم بالضرورة أدرى بشعابها من غيرهم. أحد أبرز هذه الأسباب أنني مقيم على تخومهم الشمالية حيث التداخل القبلي جلي ومؤثر، وخصوصاً بعد موجات الهجرة الأخيرة. سبب آخر أنني عشت فترات متفاوتة أثناء خدمتي في البلد الشقيق في مهام دعم عسكري كان يوفرها السادات ومبارك للنظام الحاكم حليفهم في تلك الأيام، وقد أتيح لي الاحتكاك عن قرب بمجتمع كان منفتحاً متسامحاً (وأظنه لا يزال) ثقافياً واجتماعياً وسياسياً ودينياً. سبب آخر مهم هو أن بعضاً من عشيرتي ارتحلوا إلى الجنوب مبكراً واستقروا في مناطق عديدة من أيام ممالك النوبة المسيحية وحتى وقت ليس ببعيد، واندمجوا في مجتمعاتهم وبمرور الزمن أصبحوا كياناً مجتمعياً منصهراً متجذراً، واستوطنوا معظم المدن الرئيسة مثل الخرطوم وأم درمان وعطبرة وشندي وغيرها. سبب آخر، وليس أخيراً، أنني أحب السودان لأسباب أخرى كثيرة يطول شرحها.
نعود إلى عنوان الطرح وقد اخترنا اللفظ الدارج المحبب المستخدم بكثافة في الشارع السوداني، واستخدمناه بغرض كسر حدة موضوع الطرح المقبض وهو مأساة بكل المقاييس، المقاييس الإنسانية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. مأساة بدأت منذ السبعينات عندما استجاب نميري لمغريات دعم وهمي قدمته له تيارات أدلجة العقيدة من الإخوان المسلمين وتفرعاتهم، ونافقهم بغية استرضائهم وقام بفرض قوانين تطبيق الشريعة الإسلامية، فاضطرب المجتمع السوداني كله اضطراباً شديداً، ولم يشفع له ما فعله. وكعادتهم التآمرية، انقلبوا عليه واختاروا خلفاً أسوأ منه أدخل السودان في مستنقع موحل لا زال يعاني ــ وسيظل يعاني ــ بسببه حتى اليوم.
أما الحاصل اليوم فهو تبعات ما صنعه ثالوث إغراق السودان وتدميره: نميري، والترابي، والبشير. الأول انقلب على آخر مشهد ديمقراطي عاشه السودانيون، والثاني قوض أركان الإسلام الصوفي الهادئ الذي اعتنقه السودانيون منذ فجر العقيدة إلى نسخة غريبة اصطدمت بعنف مع مجتمع هادئ متسامح لم يعتد مثل هذه الممارسات الخشنة، ومن ثم انقسم المجتمع انقساماً حاداً. أما الثالث فقد دشن النتائج النهائية ووقع على ضياع نصف جغرافية السودان، وبسبب ممارساته لا تزال بقية جغرافية السودان مهددة بالتشظي.
أما عن الحيرة فلست وحدك الحائر يا صديقنا، فنحن وكثيرون غيرنا مثلك تنتابنا نفس حيرتك: ماذا يحدث في السودان؟ وأنا لا أظن أن أحداً يعرف، وحتى من يعرف فلأسباب كثيرة لن يبوح بما يعرف عن ماذا يحدث في السودان؟ ومن يحارب من ولماذا؟ وماذا يبتغي كل طرف من حرب شردت نصف سكان بلد؟ والنصف الثاني يعاني الجوع والعرى والفقر والمرض في بلد يزخر بكل مقومات الغنى والثروة. إنها مأساة إنسانية بكل المقاييس، وفي رأيي الشخصي أن ما يحدث هو أحد نواتج ثالوث الشر الذي دمر السودان: نميري، والترابي، والبشير. فخلايا الترابي التي رعاها نميري والبشير، والتي تقبض على مفاصل الجيش السوداني، والذين نحّوا البشير تحت ضغط ثورة شعبية هائلة، عادوا وسووا صفوفهم باستراتيجية جديدة هي مهادنة تيارات الدولة المدنية الحديثة وإجهاض وتعويق أي مخطط قد يفضي إلى أن تؤول السلطة إلى الشعب. وهذا ما حدث طيلة السنوات الماضية، فقد كان السودان قاب قوسين من ترسيخ نظام ديمقراطي مدني إلى أن وقعت الواقعة واصطدم البرهان ودقلو. الأول، وتحت ضغط تيارات الإسلام السياسي التي تقبض على مفاصل الجيش، حقق هدفه بتأجيل أي نقلة في اتجاه ترسيخ حكم ديمقراطي ودولة مدنية حديثة. والثاني، وإن رفع لواء معاداة الإسلاميين لحشد التأييد له، إلا أن أهدافه الحقيقية غير معلنة.
ويدفع السودانيون الثمن مضاعفاً كل يوم من قوتهم وأمنهم وأرضهم وجغرافيتهم المهددة، ومشردون في كل دائرة الجوار. اختفى الثوار تحت هدير البنادق ولا أحد يعرف متى تنتهي هذه المأساة، مأساة "الزول" الحائر.
التعليقات