تابعتُ باهتمام إحدى الحلقات النقاشية لأحد المفكرين الملمين بالشؤون العربية والدولية، وكان موضوع الحلقة يدور حول القضية الفلسطينية وما وصلت إليه اليوم من تطورات متلاحقة ومتسارعة.

تناول المفكر موضوع الحرب الحالية على قطاع غزة من منظور آخر، وخلص إلى أنَّ هناك تغيرًا حقيقيًا في النظام الدولي، لكن الساحات تختلف، وقد تستفرد بها قوى دولية معينة دون غيرها. وهذا يجعل قضية فلسطين مهمة للغاية، حيث سلطت دراسته الضوء على مدى أهمية فلسطين على الساحة الدولية.

استند المفكر في دراسته إلى فقرة من مقال للكاتب الصحفي الشهير أحمد حسن الزيات، الذي تحدث عن فلسطين المحتلة في فترة الثلاثينيات عندما استشعر المخططات البريطانية لتسليم فلسطين إلى الصهاينة، حيث التقى الشرق والغرب في فلسطين مرتين؛ الأولى كانت في عصر الفاروق عمر بن الخطاب، والثانية خلال عصر صلاح الدين الأيوبي. وكانت النتيجة في الحالتين بزوغ الشرق وأفول الغرب. فالصراع في فلسطين لم يكن مقتصرًا على فلسطين أو البيئة الإقليمية المحيطة بها، بل كانت له آثار على مستوى العالم كله. ونجد أن الزيات تحدث عن الشرق بالمعنى الإصلاحي الذي تناوله الإصلاحيون في بداية القرن العشرين مثل الشيخ محمد عبده وغيره. وعندما يتحدث عن الشرق، يقصد الشرق الأورو-آسيوي، الذي يشمل روسيا وأوروبا الشرقية وأجزاء من آسيا، بل يذهب البعض إلى أن هذا المصطلح يشير إلى خريطة الاتحاد السوفيتي السابق، بالإضافة إلى الصين.

وأشار المفكر إلى أننا اليوم في حالة من الصراع المتجدد بين العالم الأطلسي والعالم الأوراسي بمعنى واسع للمصطلحين. فالعالم الأطلسي يضم أوروبا وأميركا الشمالية أو الغرب بشكل عام، ويبدو من خلال النظر فيما يحدث في العالم اليوم أننا بدأنا دورة جديدة من انزياح القوى الغربية. وهذا أمر مهم لنا ولمنطقتنا العربية، لكونها تقع بين هذين العملاقين الأطلسي والأوراسي.

وتُعد منطقة العالم الإسلامي منطقة برمائية بينية ومنطقة سواحل، وتقع في الوسط بين هاتين المنطقتين. لذلك، يجب على سكان هذه المنطقة أن يكونوا على إدراك تام بآثار الانزياح الشديد في القوى الدولية وتحرك مراكز القوى في العالم من قارة إلى أخرى.

هناك العديد من الكتابات، خصوصًا من قبل الكتاب الأميركيين المتخصصين في الشؤون الاستراتيجية، التي تتناول صعود الصين. هذا يشير إلى أن صعود الصين هو الهاجس الأكبر الذي يؤرق الأميركيين، نظرًا لأن الصين قوة صاعدة وأميركا قوة سائدة، والصراع بينهما يمثل إحدى الثنائيات المهمة في الصراعات بين القوى الدولية. فالقوة الصاعدة تسعى لاختراق السقف، بينما تحاول القوة السائدة منعها من تحقيق هذا الهدف.

إقرأ أيضاً: سلطنة عُمان وجهة عالمية

هذا الصراع تحدث عنه المؤرخ اليوناني ثوسيديديس منذ قرون عدة في حديثه عن أثينا وإسبرطة، حيث كان هناك صراع بين القوتين ليصطدم السائد بالصاعد. لاحقًا، جاء الفيلسوف والباحث الأميركي جراهام أليسون بمصطلح جديد أطلق عليه "فخ ثوسيديديس"، وهو الفخ الذي تقع فيه القوى السائدة والصاعدة حيث يصطدم الطرفان، وطبقه على العلاقات الصينية – الأميركية في كتابه "حتمية الحرب" بين الولايات المتحدة والصين. يؤمن بهذه النظرية الباحث الأميركي جون ميرشايمر من جامعة شيكاغو، الذي يؤمن بوجوب المواجهة الحتمية مع الصين. وقد ألف كتابًا بعنوان "الواقعية الهجومية"، حيث يرى أن القوة الصاعدة تبدأ باحتكار القوة في إقليمها ثم تتوسع، وهو ما فعلته الولايات المتحدة عند إنشائها قبل قرابة قرنين، حيث بدأت بالسيطرة على أميركا الشمالية في القرن التاسع عشر وطردت كل القوى الأوروبية مثل إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا من القارة الأميركية.

وهذه هي عقيدة الرئيس الأميركي جيمس مونرو، الذي لم يسمح للقوى الغربية بدخول أميركا الشمالية أو بأن يكون لها موطئ قدم فيها. في المقابل، يرى المحللون الصينيون أنهم لا يمثلون خطرًا على أحد، وأن الصعود الصيني لا يشكل تهديدًا. وهذا تحليل ذكي، كما يراه ذلك المفكر الملم؛ فالقوة الصاعدة دائمًا تحاول ألا تشعر القوة السائدة بالخطر، بل تسعى للحفاظ على قوتها حتى لا تقع في الانكسار في عنق الزجاجة.

إقرأ أيضاً: مجلس الأمن يحتضر

وللأسف، مصطلح "الانكسار في عنق الزجاجة" قد حدث في منطقتنا العربية. فبعض الدول كان لديها تصنيع عسكري واعد في مراحل معينة، مثل مصر والعراق، لكن لو كان هذا التصنيع استمر بالوتيرة نفسها (وبصمت) لكان الأمر مختلفًا. لكن للأسف تم كسره قبل خروجه من عنق الزجاجة. في حين استفادت الصين من هذه التجربة. وهناك مقولة شهيرة للرئيس الصيني الأسبق دينغ شياو بينغ يقول فيها: "حافظوا على قوتكم ولا تدخلوا في مشاكل قبل وقتها وراهنوا على عنصر الزمن". والبقية في المقال القادم إن شاء الله.