جنوب إفريقيا والهند: أين كانتا وأين صارتا من فلسطين؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
قبل خمسين عاماً، كانت أبواب الهند مغلقة في وجه إسرائيل. كان محظوراً على الدولة العبرية فتح سفارة لها في دلهي. اقتصرت العلاقات على قنصلية في مومباي يعمل فيها أربعة موظفين، مهمّتهم شبه الوحيدة الدعاية للتجربة الزراعية في الأراضي المحتلّة. وبسبب الجفاء الهندي تجاههم، أُطلق على عمل هؤلاء "المهمّة الدبلوماسية الأكثر انعزالاً في العالم". من جهتها، امتنعت بلاد المهاتما غاندي عن إيفاد أيّ دبلوماسي إلى دولة الاحتلال. فضّلت توطيد العلاقات مع مصر جمال عبد الناصر، وتطوير حركة عدم الانحياز والتضامن الكامل مع القضية الفلسطينية وثورة أهل فلسطين لاسترداد حقوقهم المنهوبة.
في الجهة المقابلة من المحيط، وعلى بعد آلاف الكيلومترات، كانت جنوب إفريقيا الغارقة في العنصرية والتمييز العرقي تقيم أفضل العلاقات مع دولة الاحتلال، بعدما كانت في طليعة البلدان التي صوّتت لتقسيم فلسطين في عام 1947، وثاني دولة في إفريقيا تعترف بإسرائيل بعد ليبيريا التي كانت خاضعة تماماً لبريطانيا صاحبة الوعد البائس لليهود بإقامة دولة لهم على أرض فلسطين. ثمّة أوجه شبه كثيرة بين الكيانين. تقول حكومة بريتوريا في كتابها السنوي لعام 1976: "لدى إسرائيل وجنوب إفريقيا شيء واحد مشترك: كلاهما موجودان في عالم يطغى عليه العداء ويسكنه أناس من السود".
العالم تغيّر
اليوم، لا تزال فلسطين تعاني تحت الاحتلال. لكنّ العالم تغيّر. تبدّلت الظروف وتغيّرت الأحوال. سقطت أنظمة وحلّت محلّها أنظمة أخرى. اندثرت مفاهيم وقيم، وسادت لغة مغايرة وسياسات ومصالح جديدة. جنوب إفريقيا التي تحوّلت بعد ثورة نلسون مانديلا ورفاقه، وأسقطت نظام "الأبارتهايد"، كانت الأشجع بين دول العالم في التصدّي للعدوان الإسرائيلي على أهل غزة. جرجرت إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية لمحاسبتها على جرائمها وارتكاباتها الفظيعة ضدّ المدنيين الغزّيّين العزّل. طردت سفيرها وقطعت العلاقات الدبلوماسية معها، ووضعتها في أحشر زاوية، وسلّطت على رقبتها سيف العدالة والمساءلة.
جنوب إفريقيا التي عانت أطول تجربة نظام فصل عنصري استمرّت 46 عاماً وأعقبها نضال طويل وشاقّ خاضه حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الجنوبي وحركة الحقوق المدنية، كانت بذلك الأكثر إدراكاً لمعنى أن يعيش الشعب الفلسطيني في غزة في ظلّ نظام قهر عنصري. المذابح في خان يونس وجباليا ومستشفى الشفاء تشبه مذبحة شاربفيل عام 1960 التي غيّرت الأوضاع في جنوب إفريقيا. وتالياً فإنّ بريتوريا ترى أنّ اللامبالاة العالمية تجاه فلسطين تتضاءل أيضاً، بينما يواصل الجيش الإسرائيلي إبادته الجماعية.
على العكس منها، فإنّ الهند التي أصدرت طابعاً بريدياً يحمل رسم علم فلسطين وشعار التضامن مع القضية، ترفع الآن الأعلام الهندية إلى جانب علم إسرائيل في تظاهرات التضامن مع دولة الاحتلال في حربها على غزة. القومي الهندوسي المتشدّد نارندرا مودي الذي خلف جواهر آل نهرو وابنته أنديرا غاندي في سدّة رئاسة الوزراء الهندية، كان في مقدَّم الوافدين إلى تل أبيب للشدّ على أيديها في تنفيذ وعيدها بسحق غزة بعد "طوفان الأقصى".
لماذا تغيّرت الهند؟
عوامل كثيرة، محلّية وإقليمية ودولية، جعلت الهند تفتح باب التطبيع رويداً رويداً قبل أن يشرّعه مودي بالكامل. في البداية اقتصرت علاقات نيودلهي مع تل أبيب على ما يهمّها من مجالات مع تفادي إقامة علاقات خاصة إلى حين وصول هذا القومي المتشدّد إلى السلطة عام 2014، وممارسة سياساته الانتقامية من كلّ ما رسّخه أسلافه من حزب المؤتمر الوطني الهندي، فكان أول رئيس وزراء هندي يزور تل أبيب عام 2017. قبل ذلك كان إرث نهرو يلقي بظلاله على أيّ جالس على كرسي السلطة في نيودلهي. كانت القضية الفلسطينية التزاماً لا مفرّ منه على الرغم من أنّ الهند ليست دولة عربية ولا مسلمة. لم توفد رئيسة الوزراء الراحلة أنديرا غاندي أيّ مسؤول أو موظف لاستقبال الرئيس الإسرائيلي السابق زلمان شزار عندما حطّ في مطار العاصمة الهندية قبل الانتقال إلى وجهته الرسمية النيبال. لم تعبأ بالأصول البروتوكولية ولا بالرسميّات كرمى لعين فلسطين. كانت دائماً على خطى والدها جواهر لال نهرو ملتزمة القضية الفلسطينية ورفض التطبيع مع إسرائيل ومقاطعتها. لم تكن سياسة حزب المؤتمر تجاه إسرائيل مجرّد حسبة انتخابية لكسب أصوات اليساريين والمسلمين، بل هي تجلٍّ لإرث طويل من الاهتمام بقضايا الشعوب التي عانت ولا تزال تعاني من الاستعمار الغربي. لكنّ الحماسة الهندية للقضية الفلسطينية بدأت بالفتور عندما فضّل بعض العرب توطيد العلاقة مع جارتها اللدود باكستان. وجاء توقيع اتفاق كامب ديفيد ليسهّل الالتفاف، إذ لا يمكن للهند أن تكون ملكية أكثر من "الملك" المصري الذي اختار حينها التطبيع.
تغيّرت السلطة في الهند بوصول حزب "جانتا" المطعّم بعناصر قومية هندوسية إلى السلطة، وكان يرى في التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية سنداً في مواجهة باكستان. وعلى الرغم من عودة أنديرا إلى الحكم، فإنّ سياساتها الخارجية باتت أضعف مع تراجع حليفها السوفيتي. ثمّ اختلّت الأبواب الموصدة بوجه إسرائيل بعد اغتيالها عام 1984 على يد متطرّفين من السيخ. ولم يمضِ عام على رحيلها حتى التقى خلفها ابنها راجيف غاندي نظيره الإسرائيلي في نيويورك في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعاني منها نيودلهي وحاجتها إلى فتح السوق الهندي والتقارب مع أميركا، لا سيَّما مع بدء صعود ندّها الآسيوي الآخر الصين. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان يمدّ الهند بترسانتها العسكرية زادت الحاجة إلى بديل يمكنه سدّ هذه الثغرة، وشكّل ذلك الدافع الرئيسي لقرار تدشين العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في عهد رئيسة الوزراء نرسيمها راو عام 1992. ومع نشوب حرب كارغيل مع باكستان عام 1999 ظهرت مكامن الخلل العسكرية والاستخبارية في تعامل القوات الهندية مع نظيرتها الباكستانية التي تمتَّعت بالدعم الأميركي والصيني. حينها لم تجد نيودلهي أمامها سوى إسرائيل، التي طالما تطلّعت نحو علاقة قوية مع الهند، فاستجابت جزئياً للتودّد الإسرائيلي بغية الحصول على مزايا الترسانة الإسرائيلية، التي سرعان ما باتت نيودلهي من مستورديها الكبار، فضلاً عن إمكان الوصول إلى أحدث التقنيّات العسكرية الغربية من بوابة تل أبيب.
حين استرجع حزب المؤتمر السلطة وبقي فيها حتى عام 2014، لم يتمكّن من إعادة غلق الأبواب مع إسرائيل، في تجلٍّ واضح لاستحالة العودة إلى سياسات نهرو "العروبيّة"، لا سيَّما أنّ أصحاب تلك السياسات من العرب أنفسهم تخلّوا عنها من أجل سياسات أكثر واقعية.
مودي والانعطافة الهنديّة
عجّل وصول حزب الشعب الهندي بزعامة مودي إلى السلطة في الانعطافة الهندية الكبيرة نحو إسرائيل وتجاهل فلسطين وقضيّتها، وبلغ الأمر ذروته في ولايته الثالثة الحالية، حيث ازدادت وتيرة التطبيع مع الدولة العبرية، وعزَّز ذلك الاتجاه التقارب الوثيق بين نيودلهي وواشنطن على خلفية تنامي قوة الصين. لذا باتت الهند تنظر إلى إسرائيل على أنّها جزء من تحالفها مع الولايات المتحدة أكثر من كونها مسألة مرتبطة بعلاقاتها مع الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. يُضاف إلى ذلك تراجع مخاوف الهند من ردود الفعل الخليجية والإيرانية، لأنّ بعض دول الخليج بدأت تسلك مسار التطبيع أولاً، ولأنّ العلاقات الهندية-الإيرانية باتت أقلّ محورية في نظر الهند على الرغم من أهميّتها ثانياً. كما أنّ سقوط الاتفاق النووي أجّج الصراع بين طهران وواشنطن، وهو ما دفع بنيودلهي إلى ترجيح كفّة الأخيرة، ثمَّ تضاءل وزن إيران في الحسابات الهندية.
إلى ذلك ثمّة سمات مشتركة عدّة بين دولة مودي الهندية ودولة إسرائيل. فبعدما كانت الهند في ظلّ حكم حزب المؤتمر دولة علمانية قائمة على فصل الدين عن الدولة بما أتاح التعايش بين شتّى دياناتها، وكانت مؤيّدة للقضايا القومية العربية بما فيها القضية الفلسطينية، انزلقت تحت حكم مودي إلى دولة تعصّب ديني تحكمها أيديولوجية تعتبر أنّ الهندوسية ديانة الهند الشرعية الوحيدة وأنّ سائر الديانات دخيلة على البلاد، ولا يجوز أن تكون لها حقوق مساوية لحقوق الهندوس. وهو منطق شبيه بالمنطق الصهيوني، لا سيما منطق حكومة بنيامين نتانياهو الحالية التي لا تخفي هدفها المتمثّل في الاستيلاء على كامل أراضي فلسطين من البحر إلى النهر بغية تحقيق إسرائيل كبرى يهودية صافية.
إقرأ أيضاً: حرب السيوف الحديدية واليوم الذي سيلي
الهند وجنوب إفريقيا مثالان ساطعان لتبديل الدول سياساتها تبعاً للتحوّلات والتغيّرات التي تطرأ في داخلها. التشابه بين العصبيّتين الهندوسية والصهيونية انعكس في تحوّل الهند في ظلّ حكم مودي إلى حليفة لدولة إسرائيل. في حين أنّ التشابه في المعاناة من العنصرية والتمييز العرقي والظلم التي واجهها رفاق مانديلا وأحفاده جعل جنوب إفريقيا الجديدة أكثر تفهّماً لأوجاع الفلسطينيين وتعاطفاً مع قضيّتهم وابتعاداً عن إسرائيل.. فهل يعني ذلك أنّ علينا الانتظار طويلاً حتى نرى تغييراً في الغرب، لا سيما في أميركا، يمكن أن يؤسّس لموقف عادل إزاء فلسطين؟