جينات الصراع ومكامن الجمال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
إن قيل يوما إنك في محراب الجمال، فلربما تكون قد حظيت بمشاهدة شارع النيل بالخرطوم. مكان مفعم بأنفاس العاشقين، وأرواح الأولين، وأسرار الحياة وسحرها.
والخرطوم، شأن كل المدن، تعيش حياة المدنية وزحامها وضجيجها، لكن لمساتها الجمالية، رغم شظف العيش، ذات بصمة، ولن تملك وأنت تعبرها أو تعود إليها إلا أن تحس بذلك الشيء الذي لا يتخلل حواسك إلا فيها.
مع ذلك.. فهناك الآفة المستفحلة في الخرطوم وفي كل مدن المنطقة الكبرى من المحيط إلى الخليج، حيث لا سامع لزامر الحي، ولا تفاعل بجمال المكان أو بعضه على الأقل إلا لمن يأتي زائرا أو عابرا، أو لمن يرتوي بكأس الاغتراب فيؤوب أخيرا لمراتع صباه وموئل نشأته.
لعلها جينة (إقليمية) تلك التي تجعل من شعوب المنطقة مأزومة بالصراع، سواء كان صراعا حقيقيا تهرق فيه الدماء، أو صراعا معنويا تنفخ فيه العواطف السالبة وتؤججه، فلا يكون إلا خميرة لما يمكن أن يأتي من انفجارات وانهيارات!
هكذا يغيب الإحساس بجمال المكان، إلا لقلة قليلة، ليملأ فراغه غلُّ السياسة، وأوجاع الفساد، والعداء للآخر المستقل بقناعاته، وتراجع الخدمات، وتصاعد أعباء المعيشة، واللهاث خلف المتطلبات الأساسية، والتوجس من الغد ومفاجآته، فلا يعود ثمة كوّة يطل منها الجمال والمتعة والإحساس الحقيقي بالحياة.
أكثر ما يلفت في إنسان المدينة بإقليمنا من محيطه إلى خليجه، أن الكثيرين يحافظون على جذورهم الممتدة في الأرياف والأصقاع والقرى، فيبقى ارتباطهم بالمدينة ارتباط معيشة وعمل وسكن، ويبقى الوجدان معلقا بالريف والجذور ومسقط الرأس. هذا ما يفسر الازدهار التدريجي لحياة الأرياف وتسلل أنماط المدينة إليها، فثمة خلخلة تتم في أساليب الحياة لتجعلها متشابهة في هذا الكون سواء كنا في جوهانسبرج أو القاهرة أو كوالالمبور أو سيدني أو نواكشوط أو غيرها.
على ذلك يبقى (تمدين الريف) وانتقال الحياة الحضرية لمفاصله أمرا يمكن فهمه، فالانسان يريد توفر متطلباته أينما حل، والناس أعداء ما جهلوا. أما أن يحدث العكس، وتتحول المعادلة من (تمدين الريف) إلى (ترييف المدن)، فتلك هي المعادلة اللافتة في مزاجية أهلينا بكل الإقليم على اتساعه.
هل هي احباطات الحياة الحضرية التي تجعل البعض ينصب قطيّة وهي غرفة بسيطة يتم بناؤها بالقش واللبن في الريف السوداني لتصبح جزءا من فيللا فخمة في أحد أحياء الخرطوم الراقية ؟ وما الذي يجعل خيمة صحراوية تنتقل بكامل بهائها وبساطتها البدوية لتكون جزءا من استراحة فخمة أو قصر منيف في مدينة خليجية، بل وما الذي كان يدفع بالقذافي صاحب الجموح والتقلبات لينقل معه خيمته الشهيرة حيثما حلّ.. فلا يهنأ له بال ولا ينام له جفن إلا بين ثناياها ؟!
كل ذلك يكون ملمحا للترييف المقصود في وجهه الذي يمكن قبوله أو تفهمه، لكن الطامة تكون حين يصبح الترييف نتاجا لتردي الخدمات ورحيل معالم المدنية بآفات الصراع والاقتتال والمعاناة.
الترييف السالب يكشر أنيابه حين تتهاوى المدن في انقطاعات الكهرباء، أو شح المياه، أو تردي الصرف الصحي، أو هدم المرافق والمساكن، أو تدهور وسائل المواصلات، أو اختلال الدخل المادي قياسا بالمتطلبات وفشل التوسع في فرص التوظيف والرعاية الصحية وغيرها.
صور الترييف السالبة تبدو سافرة وإن كساها الحياء، ولا شيء يؤدي لدروبها الزلقة أسرع من الحروب والفتن والكراهية وأوجاع النفس والطمع فيما يقتنيه الغير.
ربما نحتاج صياغة جديدة لإنسان المنطقة، صياغة تعرّفه بنعيم الأمن ورونق الحياة وجمال المكان!
صياغة توسع من اعترافها بالإنسان وتحيله إلى كيان لا رقم.
صياغة تقر بالاختلاف كحتمية واجبة الاحترام، فلا وصاية لفئة على أخرى، ولا هيمنة لجماعة على جماعة، ولا تعدّ لصاحب معتنق أو فكر أو فلسفة على آخر.
بتلك القناعات يمكن أن تعود لمرابعنا بهجتها وجمالها، ولحياتنا أمنها ورخاؤها، ولمدننا ألقها وجذبها.
وبتلك القناعات سيظل احتفائي بشارع النيل الخرطومي باهرا متلألئا.. لا تشوبه شوائب المعاناة، ولا تعتريه عتمة التوجس وانطفاءات الضياء.