فضاء الرأي

استحضار البوح في أغنية وحيد الأسود.. "اشلون داده"

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


من هو الفنان وحيد الأسود ؟
( عاش فقيراً ومهمشاً، توفي ولا يملك شيء في منزل شقيقته الفقيرة، سكن مدينة الثورة قطاع 22 ببغداد،& أسود البشرة من أصل جنوبي، يحيي الحفلات الإجتماعية لأهلها، أشتهر بارتدائه القميص النص كوم والطاقية البيضاء الشعبية "الحدرية"، أشتهرت أغنياته كثيراً في الثمانينات ولكن ليست بصوته بل بصوت سعاد عبدالله ومن بعدها الفنان قاسم السلطان غنى له كذلك ولكن للأسف لم يشر أي منهم لهذا المغني المظلوم، ولا حتى الأعلام المسيّر في ذلك الوقت بحثَ عن هذا الموهوب، من أشهر أغانيه "أنا المسيچينة، أهواك، وأسمر والعيون وساع چتاله، وجسر المسيب، واشلون داده "وغيرها الكثير، ربما سرقت ولم نعلم لعدم تسجيلها بصوته، ولعل ما كان شائعاً بين ابناء منطقته من كونه كان شوعياً هو السبب في تهميشه من قبل الإعلام وقتها، توفى في ظروف غامضة ولكن يؤكد أحد المهتمين بالفن وهو من سكان المدينة أن الراحل توفي بسبب المرض في مستشفى القادسية في مدينة الثورة قطاع 54 ولكن للأسف لا تتوفر حتى صورة شخصية له ) منقول بتصرف
..
تقول كلمات أغنية ( اشلون داده )
..
اشلون داده ويلي داده .. اشلون داده
حلف بالعباس والزهرة الزچيّه
حلف بالعباس واتعذبت زهره
شال وانگطعت أخباره وتعب گلبي من النشاده
قشمراني ونثر بعيوني رماده
من افيض صخام وجهي شسوّه بيّه
لو سمعوا هلي وعمامي وطشّت بكل العشيره
موش انه وعاري يدفنوني بحفيره
خيّه حسبالي وَفي وصاحب شهامه
خيّه گلي ودگ لي صدره وخمس تيام وهلي يخطبوچ اليّه
لنّي أفيض صخام وجهي شسوّه بيّه
شوّغ نهيدي باصبعه وبالشفايف خدّراني
درت كل إمام ما خلّيت ساده
لا هيّه طلابه عشاير تنتهي بفنجان وتفض
ولا هيّه عرگة وكت وألبس عباتي وياك وأركض
لو گرب يوم الولادة اشلون داده
..
هذا النص الذي أدّاه الراحل ( وحيد الأسود ) هو مقاطع مجتزأة من النص الأصلي، تُصوّر حالة رائعة للبوح الأنثوي الغارق في شباك الحب ونتائجه القاسية في مجتمع جنوبي متشدد، وفي الحقيقة لم أقع على أثر كاتب هذه الكلمات، ولعلها تعود للمطرب نفسه أو لأحد الطاقات اللغوية المنتشرة في العشائر والمضايف الملقبين ( بالهوّاسين )
تحكي الأغنية، بمزاج عراقي جنوبي، فيه نكهة التفاصيل اليومية، وحلاوة المصطلحات المتداولة في المجتمعات البعيدة عن تفاصيل المدنية والتقنية اللغوية، تحكي حكاية فتاة اسمها ( زهرة ) ولعل اسمها ( زهراء ) لكن أهل الجنوب يحوّرون الأسماء بما يبسطها ويجعلها مرادفة لأسماء المقدسين في قواميسهم. زهرة تقع في حب شاب من الحيّ، يستغل طيبتها وبساطتها، ليعتدي على عذريتها ويتركها للأقدار
*/ اشلون داده ويلي داده .. اشلون داده .. حلف بالعباس والزهره الزچيه .. حلف بالعباس واتعذبت زهرة
كلمة ( داده ) هي صفة للمقابل الذي تترجاه، فزهرة تسأل المقابل، أو ربما ترتجي من نفسها، للحالة التي هي فيها، ومصيبتها التي توضّحها في آخر المقطوعة (لو گرب يوم الولادة شلون داده ) أيْ، مالعمل حين يقترب موعد ولادتها، وتكبر بطنها وتصبح في حالة مزرية، ( زهرة ) تحكي حكايتها، حبيبها قد حلف لها ( بالعباس والزهره الزچيه )، والعباس هو أخ الإمام الحسين في واقعة الطف، وله منزلة خاصة عند أهل الجنوب والناس البسطاء، والقَسم به يعدّ قَسماً رهيباً لا يمكن النكوث به، وأغلب النزاعات أو الاعترافات التي يودون تصديقها، يتوجهون الى مرقد العباس في كربلاء لإتمامها، فمن النادر أن يُقسَم به كذباً أو يُكذَّب من يُقسِم به، و(الزهره الزچيه ) فاطمة الزهراء بنت النبي، كذلك لها منزلة خاصة خصوصاً عند النساء الجنوبيات، وعليه نرى أن حبيبها قد استغل هذين الإسمين المقدسين عند ( زهرة ) لتُسلّم له نفسها الطاهرة العذراء، فكانت نتيجتها العذاب الذي عاشت به بعد فعلته
..
*/ شال وانگطعت أخباره وتعب گلبي من النشاده .. قشمراني ونثر بعيوني رماده .. من افيض صخام وجهي شسوّه بيّه
بعدما يفعل الحبيب فعلته، يرحل من الحيّ فجأةً، وتنقطع أخباره عن زهرة، فتسأل القاصي والداني وتنشد عنه، لكنما الجواب هو ما أتعب قلب زهرة، لم تتعبها المشاوير في الأزقة ولا البحث، أتعبها قول الناس، بأنهم لا يملكون خبراً عنه ، لقد ( قشمرها ) أي خدعها، ونثر في عينها غباراً من سحر كلماته، فغدت لا ترى في الدنيا سواه واستسلمت، هي تندب حظها لحظة صحوتها ( صخام وجهي اشسوّه بيّه )، وهذا هو العويل الجنوبي في المصائب، حين تندب المنكوبة وتشبّه وجهها بسخام القدور نتيجة الدخان المنبعث من نار الأخشاب أو ( المطّال ) وهي أقراص الروث الحيواني المستخدم لذات الغرض، ومع هذه المقولة المتداولة تلطم الجنوبية خدّها وتقرصه بشدّة، وكأنها حركة وصيحة للصحوة من منام مزعج، لكن زهرة لا تستفيق من منامها وهي في مشكلة حقيقية
..
*/ لو سمعوا هلي وعمامي وطشّت بكل العشيره .. موش انه وعاري يدفنوني بحفيره
& إنه قرار لن يتوارى الأهل والعمام في اتخاذه، وهو القتل لغسل العار، ونلاحظ أن العمام هم الحاضرون في المشهد، لأن عينهم وعين ابن العم دوماً على بنت العم، والعم له منزلة في الأسرة الجنوبية وعموم الأسر الفلاحيّة، أكثر من الخال، وهذه أتت من النزعة الذكورية، فإخوان الزوجة ليسوا بنفس مقام إخوة الزوج، لأن الرابط هناك أنثى وهنا رجل، وزهرة تخشى من أن تدفن، مع اعترافها بأنها جلبت العار لهم، وتؤكد أن الخبر لو انتشر فمصيرها مرعب
..
*/ خيّه حسبالي وَفي وصاحب شهامه .. خيّه گلي ودگ لي صدره وخمس تيام وهلي يخطبوچ اليّه
&زهرة هنا، تحاول أن تبرر ضعفها أمام فعلتها، فهي ظنت أن حبيبها وفيٌّ وصاحب شهامة، لأنه ضرب على صدره وأخبرها بأن أهله سيأتون لخطبتها في غضون خمسة أيام، والضرب على الصدر هو أحد صور الوفاء والإلتزام، وبمجرد هذا الفعل لا يحتاج المقابل إلى نص يدعم، لفهم أن المراد هو ( أنا حاضر لأيّ شيء )
..
*/ شوّغ نهيدي باصبعه وبالشفايف خدّراني .. درت كل إمام ما خليت ساده
تصف زهرة لحظة استسلامها لحبيبها، فهو استغل مراكز الإحساس الأنثوية عندها، ولطالما كانت هي من الريف المتعفف، تكون استجاباتها سريعة، نهدها الذي مامسّه بشر سيثور لحظة ملامسته من الحبيب الذي استغل مع ذات اللحظة وقرّب شفتيه من شفتيها، لتغوص في عالمٍ آخر وتصاب بالخدر التام وكأنها جثة ممدّدة تحت جرّاح، إنها لوعة الحب حين يستسلم الجسد لاختارقه والتجاوز عليه، كأعلى وأسمى جائزة تعيطها حبيبة لحبيبها
في المقطع التالي، ترجع زهرة وتذكر الحلول التي لجأت إليها بعد التجاوز عليها، فهي دارت على الأئمة وأضرحتهم، ولم تترك ( سيّداً ) إلّا والتجأت إليه، والسادة ( الرجال من ذرية النبي ) لهم منزلة خاصة عند أهل الجنوب، وهم الملاذ في المهمات، والبركة والسرّ الذي يعالج أغلب المشاكل، وهذا الوصف ينقلنا إلى مشاهد النساء الحائرات اللائي يبكين كثيراً عن شباك الأضرحة، يفتحن العباءة السوداء ويضربن برؤوسهن الشباك، يبكينّ وينوحنّ
..
*/ لا هيّه طلابه عشاير تنتهي بفنجان وتفض .. ولا هيّه عرگة وكت وألبس عباتي وياك وأركض
وصف أكثر من رائع لحالتها، فمشكلتها ليست عشائرية، نزاع، خصومة أو حتى قتل، لتنتهي بالصلح بين الأطراف وتحضر فناجين القهوة ليرتشف الجميع نخب الاتفاق، كذلك، هي ليست عراك بين أهل الحيّ، لتلبس زهرة عباءتها وتركض معه، وهذا المشهد حزينٌ بطبعه، فالنساء الجنوبيات لطالما مررن به، حين يعلو صراخٌ من خارج البيت الطيني، أو صوت إطلاق رصاص، أو جنازة في أول الحيّ لأحدهم، لتترك كل شيء وتتوجه صوب عباءتها وتخرج راكضةً مذهولة، تبحث عن جوابٍ أو تسحب إبناً لها أو تفزع لقريب، ورغم هذا المشهد القاسي إلّا أن زهرة تتمنى لو كانت مشكلتها كذلك
..
هذا البوح الجنوبي، أضاف له الخالد ( وحيد الأسود ) عذوبة أكثر بصوته المميز، ولم يستعن إلّا بطبّال يرافقه، فيكفيه هذا الصوت المملتئ بالنوح، كذلك أضاف له طعماً ونكهةً بتنقلاته العشوائية صعوداً ونزولاً من مقطع إلى آخر وتحويره في فقرات النصوص حسب مزاجه، ولأنها حكاية وجع، فكل شيء ممسوح
وحيد الأسود، مبدع موجوع في زمن موجوع، عاش ورحل، ولم تذكره سطور الإنصاف، ورغم قلّة نتاجه، يكفيه هذا القليل الرائع الذي ترك، فبصمته حاضرة حين تُذكر أدبيات الشعوب&
..
رابط الأغنية انقر هنا
&
Ayoobeat@hotmail.com
&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
Iraq
Iraqi -

تحية للكاتب فاضل عباس على هذا الموضوع الشيق من التراث. لقد اختار الكاتب مطرب واغنيه ليذكرنا بالزمان الجميل...يوم كان هناك فن اكثر بكثير من القتل.

تحية
نصيف الناصري -

تحية طيبة لك عزيزي الكاتب. أحييكَ على استذكارك للمطرب وحيد الأسود وأمتعتني قراءة المقال. أود اعلامك أن وحيد ليست له أخت. له أخ أصغر منه اسمه هادي { هويدي } وكان متطوعاً في الجيش، ووحيد عاش وتزوج ومات في بيت أهله بقطاع 9 في مدينة الثورة وتوفى بالمستشفى الذي ذكرته أنت بسبب المرض. لم يكن شيوعياً قط وهو بالكاد يقرأ ويكتب.

شكراً للمعلومات
فاضل عباس -

بودنا ، توثيق تفاصيل حياة هذا المبدع ، ما اعتمدته في معلوماتي نقلته مما توفر أمامي ، ولا بأس بجمع أكثر عدد من المعلومات ثم تمحيصها للخروج بنتيجة قوية تؤرخ لهذا المهمش .. سلمت