فضاء الرأي

لجان التحقيق.. حاجة أم ضغوط سياسية على الأونروا!

ليس سراً القول إنَّ إسرائيل تريد التخلص من وكالة الغوث
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ليست المرة الأولى التي تعلن فيها الأمم المتحدة تشكيل لجان تحقيق في اتهامات تتعلق بوكالة الغوث (الأونروا)، وللصدفة كلها اتهامات إسرائيلية. بل ان ما يميز قرار الأمين العام للأمم المتحدة بتشكيل لجنة دولية مستقلة مطلع شباط (فبراير) الحالي للتحقيق في مزاعم إسرائيلية حول مشاركة عدد من موظفي الأونروا في عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) أنها تزامنت مع تعليق عدد من الدول المانحة دعمها المالي للوكالة، في الوقت الذي أعلنت الأونروا إنهاء عقود عدد من موظفيها وفتحت تحقيقاً على اعلى المستويات حتى إثبات "الحقيقة".

بالرغم من أنَّ السبب المباشر لتشكيل لجنة التحقيق هو مزاعم إسرائيلية بشأن الوكالة وموظفيها، إلا أن الواضح أن إسرائيل والولايات المتحدة تسعيان إلى الانتقام من وكالة الغوث بشكل خاص ومن الأمم المتحدة بشكل عام، على خلفية مواقفهما بشأن العدوان. إذ سبق للأمين العام أن انتقد إسرائيل بشدة لعدوانها على قطاع غزه، واعتبر "أنَّ هجوم حماس لم يأتِ من فراغ"، في إشارة إلى أن أسباب الهجوم يتحدد بالاحتلال وممارساته ضد الشعب الفلسطيني. وفي سعيه لوقف العدوان اضطر لاستخدام المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، وتوجه إلى مجلس الأمن مطالباً بالعمل على وقف فوري لإطلاق النار. أما الأونروا فقد كانت تقاريرها، بشأن استهداف العدوان لمقراتها ومدارسها ومراكزها الصحية ومستودعات الأغذية ومراكز إيواء النازحين واستشهاد عدد من موظفيها وطلبتها، واحدة من الوثائق التي استندت إليها جنوب أفريقيا في دعوتها القضائية أمام محكمة العدل الدولية، إضافة إلى عشرات التقارير الصادرة عن مؤسسات الأمم المتحدة وعن مقررها الخاص في الأراضي الفلسطينية، والتي تدين جميعها إسرائيل وتعريها أمام دول العالم، مما جعل الأمم المتحدة ومؤسساتها هدفاً مباشراً لإسرائيل.

ليس سراً القول إنَّ إسرائيل تريد التخلص من وكالة الغوث، وهي تسعى سواء عبر مواقف سياسية اتهامية بحق الوكالة أو تلفيق الأكاذيب التي تحرض الدول المانحة من أجل وقف تمويلها، وسبق لعدد من مسؤولي الوكالة أن أكدوا هذا الأمر بشكل علني وفي أكثر من مناسبة. ففي عام 2019، وأمام الدورة 152 العادية لمؤتمر وزراء الخارجية العرب، قال المفوض العام: "هناك حملة غير مسبوقة ضد الوكالة لنزع الشرعية عن قضية اللاجئين الفلسطينيين.. وإن كافة الوسائل والسبل تم توظيفها في هذه الحملة". وفي عام 2022، جزَم المفوض العام أمام اللجنة الاستشارية للوكالة بأن محاولات نزع الشرعية عن الأونروا بهدف تقويض حقوق لاجئي فلسطين تزداد في وتيرتها وعدوانيتها، فيما اعتبر مدير عمليات الأونروا السابق في قطاع غزة عام 2021 أن جهات معادية، تحاول إنهاء عمل الوكالة، عبر اتباع أساليب "نشر مواد وأخبار مضللة". إضافة إلى مواقف وتصريحات من مسؤولي وكالة الغوث المحليين والدوليين تؤكد حقيقة الاستهداف السياسي للوكالة.

وبعيداً عن الاسترسال في التحليل حول أسباب هذه الاتهامات والحملة الشرسة التي تشن ضد الأونروا، فقد لخصها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 2017 نفسه حين قال ما حرفيته: "حان الأوان لتفكيك وكالة الغوث ودمج خدماتها في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للمنظمة الدولية"، زاعماً أنَّ الوكالة تحرض ضد إسرائيل لأنها من خلال وجودها وأنشطتها تساهم في تخليد مشكلة اللاجئين، حسب قوله. وقد كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أنَّ هناك خطة وضعتها الأجهزة الإسرائيلية لكيفية التعاطي مع وكالة الغوث مستقبلاً، والتصريحات اليومية للمسؤولين الإسرائيليين ترجح صحة المعلومات عن وجود هذه الخطة التي تنقسم إلى مراحل ثلاث: "الأولى تشويه صورة الأونروا في أعين المانحين وإقناعهم أن هناك تعاوناً بين الأونروا وحركة حماس"، وهذا أمر شهدناه في الاتهامات المباشرة التي لم تستند حتى هذه اللحظة إلى أي دليل. المرحلة الثانية عدم السماح للأونروا بتقديم خدماتها وطرح منظمات دولية لتقديم الخدمات بديلاً عنها، وأيضاً حصلت محاولات إسرائيلية لتكريس هذا الأمر سواء عبر قصف وبشكل متعمد مراكز ومقرات الأونروا، أو من خلال تجميد بنوك إسرائيلية لحسابات بنكية خاصة بالأونروا، أو قرارات بوقف الإعفاءات الضريبية الخاصة بالأونروا. المرحلة الثالثة هي نقل كل مهام وكالة الأونروا إلى الهيئة التي ستحكم غزة بعد انتهاء الحرب، في افتراض أنَّ هذه الهيئة سوف تستجيب للمطالب الإسرائيلية، وهذا أمر يبدو أنه بعيد المنال، لأكثر من سبب منها أن كافة منظمات الأمم المتحدة غير مهيأة لتولي المسؤوليات التي تقوم بها الأونروا، كما ذكر الأمين العام للأمم المتحدة، "وأن الكلفة التشغيلية للأونروا أقل بكثير من كلفة تشغيل وكالات أممية أخرى، وغير ذلك من الأسباب التي تجعل من الاستحالة إمكانية نجاح هذا الأمر، وأن لا بديل عن الأونروا إلا الأونروا في القيام بأعباء وتداعيات العدوان الإسرائيلي.

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

إنَّ ما تريده إسرائيل من الأمم المتحدة ليس التحقيق في حيادية الأونروا أو التحقيق في مزاعمها بشأن مشاركة بعض موظفيها في عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بل إنَّ ما تسعى إليه بالفعل هو عزل موظفي وكالة الغوث عن قضايا شعبهم وعن الهم الوطني للشعب الفلسطيني، كمقدمة لجعل الأونروا جسراً لتصفية حق العودة، سواء بإعادة النظر بتعريف اللاجئ، بما ينزع عن ملايين اللاجئين مكانتهم القانونية، أو برسم استراتيجيات تستجيب للمطالب الإسرائيلية. والتحريض موجود قبل أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وموظفو وكالة الغوث تحت العين الإسرائيلية منذ سنوات، وقد أحيل عدد منهم إلى التحقيق في أوقات سابقة، في كافة التجمعات، بدعوى خرقهم حيادية موسسات الأمم المتحدة. والخرق المقصود يطال كل ما له علاقة بالتعبير عن المشاعر الوطنية، سواء أكان ذلك تغريدة على مواقع التواصل أو مشاركة في احتفال وطني أو في تشييع شهيد أو التهنئة باطلاق سراح أسير أو استخدام مصطلحات تعتبرها إسرائيل تحريضية مثل الاحتلال، الشهيد، المقاومة، النكبة، العدوان والتهجير وغير ذلك من مصطلحات تشكل مجتمعة جزءاً رئيسياً من الذاكرة الفلسطينية.

إنَّ السؤال الذي لا بد من طرحه، مع تفهم حيثية الأمم المتحدة بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة لتقييم "حيادية" وكالة الغوث في مواجهة الحملة الأميركية الإسرائيلية والتي انساقت خلفها 17 دولة غربية، وبهدف قطع الطريق على من يريد تحقيق نتائج سياسية تضر بالأونروا، هو: لماذا تم تجاوز الأنظمة الداخلية للأمم المتحدة وتشكلت لجنة تحقيق مستقلة؟

في التعاطي مع تداعيات الاتهامات التي وجهت إلى الأونروا وموظفيها، نحن أمام ثلاثة أشكال من التحقيق: الأول هو التحقيق الداخلي الذي تجريه الأونروا والذي يتعلق عادة بقضايا داخلية سواء بين الموظفين وهيئاتهم المحلية أو بينهم وبين الرئاسة. والثاني هو التحقيق الذي يجريه مكتب الأمم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية، وهو تحقيق يتعلق باتهامات تطال كل مؤسسات الأمم المتحدة بما في ذلك الأونروا كونها تمثل جزءاً من هذه المؤسسات، وهذا النوع من اللجان هو الذي طبق في كثير من المرات بعد اتهامات إسرائيلية أو من منظمات ومؤسسات تابعة لها. والثالث هو التحقيق المستقل الذي يجري بإشراف الأمين العام للأمم المتحدة، كما حصل مؤخراً.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

ووفق البيان الصادر عن الأمين العام للأمم المتحدة، فإنَّ وظيفة لجنة التحقيق التي شكلها ليس التحقيق بالاتهامات الإسرائيلية تحديداً، وليس أيضاً إدانة الأونروا أو اتخاذ إجراءات يمكن أن تستفيد منها إسرائيل لتقوية موقفها الهادف إلى وضع وكالة الغوث في قفص الاتهام تمهيداً لاستهدافها سياسياً بطرح مشاريع وأفكار تقود بشكل تدريجي إلى إلغائها وتصفية خدماتها وإحالتها إلى هيئات ومنظمات دولية أخرى، بل إنَّ هدف اللجنة هو "تحديد ما إذا كانت الوكالة تقوم بكل ما في وسعها لضمان حيادها والرد على الاتهامات بارتكاب انتهاكات خطرة حيثما كان ذلك مناسباً".

إنَّ ما ينبغي أن ينظم علاقة وكالة الغوث بموظفيها هو ليس ما تدّعيه هذه الدولة أو تلك من مزاعم، بل الأنظمة الداخلية التي ترعى هذه العلاقة، وهذا أمر ينطبق على جميع موظفي الأمم المتحدة، سواء من ينتمي منهم إلى منظمات رئيسية في المقر الرئيسي وفي مختلف دول العالم، أو في مؤسسات فرعية. وهناك ثلاثة أشكال تحدد وتنظم عمل موظفي الأمم المتحدة، ومن ضمنهم موظفي وكالة الغوث، وهي: النظامان الأساسي والإداري لموظفي الأمم المتحدة، ومعايير السلوك لموظفي الخدمة المدنية الدولية والتعاميم والمنشورات الدورية الصادرة عن رؤساء ومدارء الهيئات والأقاليم المعنية.

هذا يعني أن إدانة أي موظف من موظفي الأونروا لا يجب أن يقود إلى إدانة المؤسسة، كما أن إدانة سلوك أي موظف من موظفي الأمم المتحدة بشكل عام وفي أي بلد لا يجب أن يقود إلى إدانة المؤسسة بأكملها. إذ ليس من القانون والعدالة معاقبة ستة ملايين لاجئ على خلفية مشاركة 12 من موظفي الوكالة في عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بالرغم من أن الأونروا وبعض الدول التي علقت دعمها، أعلنت أن إسرائيل لم تقدم حتى اللحظة أية أدلة تثبت صحة مزاعمها. وأية اتهامات قد توجه لبعض الموظفين لا يجب أن تكون محل استغلال سياسي على طريقة التصريحات والمواقف الإسرائيلية التي تصر على لصق سمة "الإرهاب" بالأونروا، وهو اتهام يعود إلى أكثر من ثلاثة عقود من الاتهامات الإسرائيلية التي أكدت عدة لجان تحقيق شكلتها الأمم المتحدة والأونروا عدم صحة أي اتهام منها.

إقرأ أيضاً: مغادرة القوات الأميركية في الميزان

ولعل أهم وأخطر ما ورد في بيان الأمين العام للأمم المتحدة بشأن تشكيل اللجنة، هو كيفية التعاطي مع التقرير الذي سوف يصدر عن اللجنة المحدد بشكل أولي في نهاية آذار (مارس) ثم الخلاصات النهائية في نهاية نيسان (أبريل)، ومن المتوقع أن يتضمن توصيات "لتحسين وتعزيز" الآليات القائمة. وفي هذا العنوان تحديداً سيدور النقاش المستقبلي وستتركز الضغوطات السياسية حول الآليات التي يطرحها الإسرائيليون والأميركيون تحت عنوان "إصلاحات يجب أن تتم داخل الأونروا"، وهذا ما يعيدنا إلى المربع الأول في نقاش الهدف والمقصد من الإصلاحات.

فالإصلاح من حيث المبدأ هو أمر بديهي ومطلوب بشكل دائم، بغض النظر عن أية اتهامات للأونروا، وهذا ما تم تأكيده مراراً سواء من قبل الحركات السياسية الفلسطينية أو من قبل الموظفين أنفسهم، لكن ما يجب أن يكون مرفوضاً هو الإصلاح الذي يحدث تحت ضغوط سياسية وخدمة لأهداف لها علاقة بجهود إسرائيلية وأميركية تسعى منذ سنوات إلى التخلص من وكالة الغوث باعتبارها واحدة من المرتكزات التي يتأسس عليها حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين، انطلاقاً من القرار الأممي رقم 302 والذي يعتبر إلى جانب القرار 194 خلفية قانونية لعمل وكالة الغوث وعلاقتها بالجمعية العامة للأمم المتحدة.

إقرأ أيضاً: أرى رؤوساً (في إيران) قد أينعت!

إنَّ رفض المزاعم الإسرائيلية بشان "الحيادية" لا يعني بأي حال من الأحوال تجاوز نظام الموظفين الخاص بالأمم المتحدة، الذي هو موضع تقدير والتزام من قبل جميع الموظفين، بل إنَّ التحفظ المعبر عنه من قبل الموظفين والشعب الفلسطيني هو في التفسيرات الاستنسابية لهذا النظام الذي من شأن التوسع في تفسيره أن يقود إلى حصار شامل يمنع الموظفين حتى من مجرد الانتماء إلى فلسطين ومن التعبير عن ذاتهم وهويتهم كونهم لاجئون يناضلون من أجل عودتهم إلى أرضهم التي تدعو لها قرارات الأمم المتحدة. وإذا كانت حرية الرأي والتعبير قيمة مقدسة بالنسبة إلى الأمم المتحدة بكافة مؤسساتها، فالحد الأدنى من حقوق الموظف في وكالة الغوث هو أن يعبر عن رأيه في بيئة صحية وآمنة بعيداً عن سيف الملاحقة الذي يقود إلى عزل ما يزيد عن 28 ألف موظف عن محيطهم الوطني.

نحن نتوافق مع إسرائيل والولايات المتحدة على ضرورة إلغاء وتصفية خدمات الأونروا، لكن بديلها السياسي والقانوني والأخلاقي والطبيعي هو تطبيق الفقرة 11 من القرار رقم 194 التي تدعو صراحة إلى عودة اللاجئين. وإذا كان السمة العامة للأونروا هي "الصيغة المؤقتة"، فإنَّ انتهاء هذه الصيغة يرتبط ارتباطاً مباشراً بانتهاء السبب الذي تأسست وكالة الغوث من أجله، وهو عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها عام 1948 بقوة القتل والإرهاب التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، وليس كما تطرح إسرائيل والولايات المتحدة اللتين تعتبران أن الحل هو بالخلاص من الاثنين معاً، أي الأونروا واللاجئين، أو بالخلاص من وكالة الغوث أولاً على طريق ضرب حق العودة.

إقرأ أيضاً: تنسيق جهود الاغتراب لدعم الحل في سوريا

لم يعد خافياً على أحد حقيقة الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على وكالة الغوث لعزل موظفيها، وقد ساومت في أوقات سابقة بين استمرار مساهمتها المالية وبين اتخاذ الأونروا لإجراءات تحد من ممارسة الموظفين لأي نشاط سياسي، ونجحت سابقاً في اجبار الأونروا على التوقيع على "اتفاق إطار" جعلها أسيرة الشروط الأميركية في كل ما له علاقة ليس بالموظفين فقط، بل وبمرافق الأونروا وسياساتها وبتحديد فئات المستفيدين من الخدمات، هذا إضافة إلى ضغوط من دول مانحة على الأونروا لتغيير استراتيجياتها في التعاطي مع اللاجئين. ولنا في الضغط على موازنة الوكالة النموذج الواضح، حيث تراجعت مساهمات الكثير من الدول المانحة، وفي الوقت ذاته ضاعفت فيه هذه الدول مساهماتها في منظمات إنسانية أخرى. وهذا ما يدركه اللاجئون الفلسطينيون جيداً بأن السبب الرئيسي للأزمة المالية التي تعيشها وكالة الغوث منذ عقود ليس مالياً بل سياسي في المقام الأول، ويهدف إلى تصفية حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين وإلغاء وكالة الغوث.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف