إنَّ التغريبة السورية الأخيرة التي بدأت تظهر ملامحها بعد عام 2015، أي منذ أقلّ من عقد من الزمان، كانت فترة ضرورية لتشكيل رؤية واضحة عن كيفية المساهمة التي يمكن أن يقدمها السوريون الذين أصبحوا في الخارج لدعم أهلهم الذين بقوا في سوريا في المعترك الوعر في هذه الحرب الوجودية التي فُرضت عليهم منذ 2011.

كان المغتربون السوريون ولا زالوا يشكلون حجر أساس في دعم أهاليهم، حيث أنَّ بلادهم تسمى بلاد المهجر، وهم المغامرون الذين شدوا الرحال منذ أواسط القرن التاسع عشر إلى أربع أنحاء الأرض للبحث عن فرص أفضل، إلا أنني نادراً ما سمعت عن سوري لا يحمل بلاده في قلبه، ويحاول أن يقدم بالحد الأدنى دعماً لذويه وعائلته والمقربين منه.

سوف أورد هنا بعض النقاط التي يمكن تداولها بشكل جماعي، والتي من شأنها أن تُحدث بعض الفرق في المعادلة في هذه الظروف الدموية. وإذ تنقسم الجاليات السورية إلى قسمين رئيسيين، فسوف أركز عليهما حصرياً:

القسم الأول: جاليات سورية تعيش في الدول الغربية وتحظى فيها بغطاء قانوني وأمني، إذ أنها دول ذات أنظمة ديمقراطية، تراعي الاتفاقيات الدولية المعمول بها، ويمكن من خلال الأصول المتبعة فيها الوصول إلى حلول فيما لو كانت المبادرات المقدمة تتسم بالدقة وتنطبق عليها المعايير المطلوبة، وصادرة عن مؤسسات معترف بها وتتسم بالنزاهة والجدارة.

القدرة المالية العامة للجاليات السورية في الغرب ضعيفة، وذلك بسبب الأنظمة الضريبية القاسية وبسبب طبيعة سوق العمل والفرص المتوفرة فيها. كما أنَّ القوانين الدولية التي صدرت في السنوات الأخيرة جعلت العمل في الملف السوري لجهة التعاملات المالية معقد، ومنها العقوبات الدولية على سوريا بسبب النظام المجرم الذي تلاحقه قضايا جنائية كبيرة ومنها قانون قيصر وغيره.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

القسم الثاني: جاليات تعيش في دول الخليج العربي، وتحظى بشكل عام بقدرات مالية كبيرة، إلا أنها لا تتمتع بغطاء قانوني وأمني بسبب التحديات الجيوسياسية الإقليمية، وبسبب طبيعة أنظمة الحكم فيها، ولذلك فإن قدرة هذه الجاليات على تنظيم أنفسها في مؤسسات شبه معدومة. وهذا يعرقل إمكانية تطوير دورها أو على الأقل يضعها تحت ضغط إيجاد حلول معقدة حتى تتمكن من الدعم.

نأتي الآن إلى البحث في التنسيق بين هذه الجاليات، وسوف أركز على ما أعرفه، وهي الجاليات السورية في أوروبا التي تتمتع بهامش حرية كبير على المستوى التنظيمي وعلى مستوى التواصل مع سلطات البلاد التي تقيم فيها.

تأسست العديد من الجمعيات السورية في أوروبا، وبعضها يسبق الثورة السورية. ولا تتوفر حتى اللحظة شبكة عمل وتنسيق بين الجمعيات السورية ذات الرؤى المتشابهة بخصوص المسألة السورية، حتى تدير العمل الدبلوماسي مع الساسة الأوروبيين العاملين في ملف العلاقات الخارجية.

إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه

تكاد تكون الأجندات الحكومية الخارجية للدول الأوروبية شبه متطابقة فيما يتعلق بالملف السوري، مع فارق أهمية أو حجم تلك الدولة أو تلك، والمقصود الوزن السياسي الدولي، وأيضاً الأكثرية العددية للسوريين فيها، وعلى سبيل المثال ألمانيا.

تجدر الإشارة إلى أنه إذا قدمت أي جمعية سورية مسجلة في أوروبا أي مبادرة بخصوص سوريا من دون تنسيق مع شريك عمل محلي في الداخل السوري، فإنها لن تساوي قيمة الحبر المكتوبة به، وأفضل ما يحصل لها أن تُلقى في الأدراج ويكون مصيرها الإهمال التام.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

إذا نشأت شبكة عمل من الوطنيين المخلصين المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، تتولى التنسيق بين سوريي الخارج والداخل وتستفيد من الغطاء القانوني والأمني لمن يقيمون في الدول الغربية، ومن رغبة وإمكانية من يقيمون في الخليج العربي للدعم وتستند في عملها على بوصلة عمل من هم في الداخل ويمكنها تبادل الاستشارات والخبرات بينها وبينهم للوصول إلى حلول مشتركة، يمكن عندها أن نلمح بوادر تشكيل نواة أجندة وطنية سورية تعمل بلا كلل ولا ملل على بناء الحل السوري غير الخاضع لأي تبعيات خارجية. أولئك الأتباع الذين أرادوا خوض حرب بالوكالة على أراضينا بأياد سورية، إلا أن ثورة الكرامة السورية تكفلت حتى الآن بتكنيسهم من الساحة، بالرغم من فداحة الثمن.