سوريا بين الثورة والظلام:
هل تنتصر الحرية على التطرف؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نشوة سقوط صرح الطاغية في سوريا لن تدوم طويلاً إذا استمرت الأطراف المنتصرة في السير على النهج الذي يتجه نحو التطرف وفرض الإملاءات الدينية.
سوريا، بتاريخها العريق وحضارتها المتجذرة، تمثل نموذجًا فريدًا من التنوع الثقافي والديني. ورغم الارتباط العميق بالقيم الإسلامية في المجتمع، فإن الشعب السوري يمتلك ثقافة حضارية وديمقراطية تشكل أساسًا راسخًا لهويته، ويمكن أن تكون هذه الثقافة ركيزة قوية لبناء وطن حقيقي قائم على العدالة والمساواة.
في الماضي، كانت الهيمنة باسم شريحة معينة من النظام، أما اليوم فهي، وكما بدأت تتبين، تُمارس باسم الدين والله، لكنها في الواقع تسعى لتحقيق نفس الأهداف: السلطة والسيطرة وفرض ثقافة أحادية على المجتمع السوري. قد تكون الألبسة والوجوه والكلمات مختلفة، ولكن الغاية واحدة، وهي إخضاع الشعب وطمس تنوعه الثقافي والديني.
الشعوب السورية، بمختلف مكوناتها وأطيافها، لن تقبل بدستور إسلامي قائم على تأويلات خاصة للقرآن تخدم أجندات سياسية معينة. لن يقبلوا بنظام يدفع المرأة إلى الظل وراء الستارة، أو يفرض العزلة بين الجنسين، أو يدمج الدين في الدولة بشكل يقوض التعددية، أو يعيد البلاد إلى عصور الخلافة وما قبلها. نحن نعيش في عصر تتداخل فيه العلاقات التجارية والسياسية العالمية، حيث تعتمد حركة البضائع والأسواق على الأرباح والمنافسة. السوق السورية، من أصغر الحانات إلى أكبر الشركات، متصلة بشكل وثيق بالأسواق الرأسمالية العالمية.
خطبة الجمعة أو الصلاة في ساحة كلية الطب لن تكون الحل لإنقاذ سوريا من أزمتها، بل ستزيدها عزلة عن العالم الحضاري. إذا استمرت سوريا على هذا النهج، مع دستور يشبه ذلك المقترح حول الحريات العامة والذي يمكن وصفه بالكوارثي، فقد نشهد مصيرًا مشابهًا لما حدث في إيران وأفغانستان.
المجتمع السوري لن يقبل بهذا المصير، إنه واعٍ ومصمم على الحفاظ على حريته. وما جرى مؤخرًا في ساحة الأمويين، حيث خرج المئات من الشباب والشابات مطالبين بالحرية بكل أبعادها، يمثل صرخة في وجه الهيمنة الفكرية والقمعية التي تسعى "هيئة تحرير الشام" إلى فرضها. مهما بدلت هذه الهيئة أقنعتها أو غيرت تصريحاتها، فإنَّ حقيقتها لا يمكن إخفاؤها. الثورة الحقيقية لم تمت، وستظل روحها متقدة في قلوب السوريين حتى تتحقق الحرية بكل معانيها.
إنَّ الطرح الذي يروج لمفهوم "الأمة الإسلامية" بشكل غير مباشر أو مباشر، يسعى إلى طمس التنوع الثقافي والديني للمجتمع السوري، ويهدف إلى تقويض حقوق المكونات المختلفة، خصوصًا الكورد والمجتمعات الأخرى التي تطالب بخصوصيات قومية أو دينية.
في هذا السياق، نجد أن زعيم "هيئة تحرير الشام"، أحمد الشرع، ومعه حكومة الإنقاذ سابقًا والانتقالية حاليًا، قد رفضوا النظام (اللامركزي والفيدرالية)، وهو رفض نابع من إملاءات تركية، لكنه يتماشى مع نظرية “الأمة الإسلامية”. هذه النظرية تستند إلى مفهوم السلطة المركزية والإسلام السياسي، الذي يضعف التنوع الثقافي والسياسي ويفرض رؤية واحدة على الجميع.
إقرأ أيضاً: نيران التغيير والتقسيم تقترب من تركيا: هل تنقذها الفيدرالية؟
ولنا أن نتذكر تجربة إيران بعد سيطرة الخميني على السلطة، حيث أُعلن تكفير الكورد المطالبين بحقوقهم القومية، بفتوى شيعية، وتمت إباحة دماء الكورد، وارتُكبت بحقهم مجازر وعمليات اغتيال فردية، ومن بينهم قادة الحركة الكوردية في شرق كوردستان، أمثال المرحوم عبد الرحمن قاسملو ورفاقه. هذه الجرائم الجماعية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا تحت نفس الصيغة الدينية. هذا النهج ليس إلا تطبيقًا عمليًا لمنهجية “الأمة الإسلامية” التي تضع مركزية السلطة الدينية فوق الحقوق القومية والدينية للمكونات الأخرى.
اليوم، سوريا تقف عند مفترق طرق. الثورة السورية لم تعد فقط ضد نظام قمعي؛ بل أصبحت معركة من أجل الحفاظ على قيم التنوير ومنع العودة إلى عصور الظلام. الشرق الأوسط بأسره يوشك أن يدخل عصرًا جديدًا من التنوير الفكري، حيث يُعيد الإنسان التفكير في علاقته بالدين والسياسة على حد سواء.
لذلك، فإن هذه الطفرات الفكرية الدينية، مهما بدت قوية في الوقت الراهن، لن تجد البيئة المناسبة للنمو والاستمرار. لا بد من وضعها في مكانها الطبيعي، داخل الإطار الديني الخاص الذي يتمثل في المساجد ودور العبادة، حيث تكون العلاقة بين الإنسان وربه علاقة فردية حرة غير مفروضة على الآخرين.
إقرأ أيضاً: سوريا لن تُبنى بالإملاءات
ومثالًا على ذلك، يمكننا النظر إلى تجارب دول أخرى في العالم العربي والإسلامي التي حاولت فرض التشدد الديني على المجتمع. في إيران، على سبيل المثال، تعاني السلطة الدينية من أزمة شرعية متزايدة بسبب رفض الشباب والنساء، وهم غالبية السكان، للقيود المفروضة على حياتهم اليومية. كذلك، في أفغانستان، أدى التشدد إلى عزل البلاد عن المجتمع الدولي وزيادة معاناة الشعب.
في ظل هذه التحديات، يأمل المجتمع السوري، الذي يعاني من أزمات وكوارث متلاحقة، أن تتجنب “هيئة تحرير الشام”، التي لا تزال مدرجة في قوائم الإرهاب عالميًا وأصبحت الآن حكومة انتقالية تدير شؤون الدولة، الوقوع في فخ إعادة إنتاج النموذج السلطوي نفسه، حتى وإن ظهرت بأوجه جديدة ومفاهيم تبدو مختلفة.