الأوطان لا تُصنع بفرض الشروط.
تضع تركيا شرطاً رئيسياً أمام الإدارة الذاتية، قبل أن تسمح لحكومة الإنقاذ السورية بفتح باب الحوار معها، يتمثل في قطع العلاقات مع حزب العمال الكردستاني، ليس فقط بالمعنى التنظيمي، بل الإيديولوجي والفكري أيضاً. بعبارة أخرى، تطالب تركيا الإدارة الذاتية بإعادة صياغة بنيتها الفكرية والسياسية لتتماشى مع مقاييسها ومتطلباتها.
وقد صرح أحمد الشرع أيضاً بهذا الشرط، وربما كان على مضض، مما يشير بوضوح إلى أن المصدر واحد. غاية تركيا هنا ليست الإدارة الذاتية بقدر ما هو إضعاف القوى الكردية، قبل فتح أبواب الحوار مع الحكومة الجديدة. فتحجيم قوى الإدارة الذاتية يعني إضعاف المجلس الوطني، وبالعكس، أي التعامل معهما وهما في حالة ضعف لفرض شروط تتعارض مع تطلعات ومطالب الشعب الكردي، سواء فيما يتعلق بصياغة الدستور أو تشكيل الحكومة المؤقتة أو الدائمة القادمة.
والسؤال المثير هنا، وعلى سبيل المثال:
هل من المنطقي أن نطالب هيئة تحرير الشام بقطع علاقتها بالإسلام السني كشرط للجلوس على طاولة الحوار الوطني؟ بالطبع لا، فهذا الشرط غير واقعي لأن الفكر جزء من الهوية، والحوارات الفاعلة تبدأ بقبول الآخر كما هو، أو على الأقل الوقوف على مسافة منه إلى أن تُخلق أرضية للتفاهم.
وبالمثل، هل يمكننا أن نطلب من المجلس الوطني الكردي والأحزاب المنضوية تحت رايته التخلي عن منهجية البرزاني الكردستانية؟ بالطبع لا. هذا النوع من المطالب لا يعبر عن رغبة في الحوار، بل عن ميل للإقصاء.
إقرأ أيضاً: الأسد بين خيارات البقاء وأطياف الهزيمة
منطق الإقصاء هذا يبدو جلياً في السياسة التركية، التي تعيد إنتاج المنهجية التي فرضتها إيران سابقاً على الحكومة البائدة في تعاملها مع بعض قوى المعارضة. وهي تؤدي إلى تعميق الخلافات والصراعات بين مكونات المجتمع السوري، كما أنها تضع الأساس لتشكيل حكومة ضعيفة وتابعة، عاجزة عن بناء وطن متماسك ومستقل يحقق تطلعات جميع أبنائه.
لذلك، نأمل أن ترفض القوى السياسية السورية الانصياع لهذه الإملاءات، وألا تفرض على الإدارة الذاتية شروطاً تتماشى مع رغبات الدولة التركية، التي أصبحت الراعي الأبرز للملف السوري.
وبالمقابل، يتطلب من أطراف الحراك الكردي التحلي بالمرونة وتجنب التمسك بالمطالب الإقصائية، لتشكيل هيئة مشتركة تمثل الشعب الكردي في غربي كردستان، تكون قادرة على الحوار مع حكومة الإنقاذ في دمشق، التي ستباشر قريباً صياغة الدستور. ومن الضروري أن تدرك هذه المعادلة الإقليمية التي تهدف إلى إقصاء الحراك الكردي قدر المستطاع، خاصة في ظل هذه المرحلة الحرجة من مسار التحولات السياسية في سوريا.
إقرأ أيضاً: أردوغان والعباءة المزيفة: لعبة المصالح وخيانة الحلفاء
ومن المؤسف القول إن المرحلة خطيرة، خاصة أنَّ أغلبية المعارضة السورية، سواء العسكرية أو السياسية، وبعض الأطراف من الحراك الكردي، تنفذ بشكل أو بآخر الإملاءات التركية وتعمل على تطبيق شروطها. بعض هذه الإملاءات قد تحمل أبعاداً سياسية تتطلب التعامل معها بحنكة ودبلوماسية، بينما البعض الآخر يهدف بشكل مباشر إلى الهدم وزرع الفتنة والشقاق، وهو ما يستدعي التصدي له بوعي وحزم، والتحرر منه للحفاظ على وحدة الصف الكردي وحقوقه المشروعة.
يدرك الجميع أن الحوارات الوطنية يمكن أن تتم دون فرض شروط مسبقة بهذا الشكل، وبناء وطن يشمل الجميع لا يعني بالضرورة أن يرتدي الجميع الزي نفسه، أو أن يتبنى الآخرون الإيديولوجية ذاتها. فالشراكة الوطنية الصادقة تتجاوز فرض الشروط والإملاءات، وتستند إلى الاعتراف بالتنوع واحترام الاختلافات.
المفاهيم غالباً ما تكون متضاربة، ولا يجوز لأي طرف أن يطالب الآخر بأن يتطابق معه تماماً ليشاركه في العمل والنشاط. فتشكيل هيئة مشتركة تمثل الكرد في المحافل الوطنية والدولية لا يتطلب توحيد الإيديولوجيات أو إعادة بناء الذات لتكون نسخة واحدة، وهذا ينطبق على سوريا القادمة.
إقرأ أيضاً: القومية بين البناء الحضاري والتشويه الإقصائي
اليوم، تُستخدم علاقة الإدارة الذاتية بحزب العمال الكردستاني كذريعة للهجوم عليها، رغم تصريحاتها المتكررة التي تنفي وجود الحزب في غربي كردستان. هذه التصريحات تندرج ضمن محاولات الإدارة الذاتية للانفتاح على الانتقادات وتنفيذ المطالب السياسية المطروحة. ومع ذلك، لو لم تكن هذه العلاقة موجودة، لابتكرت تركيا وأدواتها ذرائع أخرى لإقصاء الكرد وتهميش حقوقهم ومطالبهم. لذلك نأمل أن يتمكن السيد أحمد الشرع وممثلو حكومة الإنقاذ من تجاوز هذه الإشكالية وإيجاد حلول للإملاءات التركية، إذ إن بناء سوريا يتطلب مشاركة الكرد وجميع مكوناتها الوطنية.
ندرك أن الإدارة الذاتية ارتكبت أخطاء في عدة مجالات، مثلها مثل جميع أطراف المعارضة السياسية والعسكرية، ومن ضمنهم المجلس الوطني الكردي. ومن بين أخطائها تعاملها مع الحراك الكردي أو تقاعسها عن تشكيل هيئات مشتركة للحوار مع المعارضة أو القوى الإقليمية. ومع ذلك، فإن التصريحات الأخيرة لبعض قياداتها، التي أبدت استعداداً للتقارب وتشكيل هيئة تمثل القوى الكردية للحوار مع السلطة الجديدة في دمشق، تعد خطوة إيجابية تستحق المتابعة. لذلك على ممثلي حكومة الإنقاذ أن يأخذوا هذه المبادرة بعين الاعتبار، لما لها من أثر في تعزيز الصف الكردي الداخلي، الذي بدوره يُسهم في بناء سوريا المستقبل على أسس صحيحة ومتينة.
التعليقات