صبحة الراشدي: حين تكتب امرأة لتشبهنا جميعًا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لم أكن أبحث عن رواية حين دخلت المكتبة. كانت هناك آلاف الكتب، وكل واحد منها يحمل وعدًا مختلفًا. لكن بين كل هذه العناوين، وقعت عيناي على رواية لا أعرف كاتبها، ولا حتى محتواها. عنوانها بسيط، لكنه شدّني: "لم أتغير". أما الاسم، فكان جديدًا بالنسبة لي: صبحة الراشدي.
توقفت، التقطت الرواية، وبدأت رحلة لم أتوقع أن تكون بهذا العمق. ولم يكن الأمر بحاجة إلى مقدمة ضاجة أو غلاف صارخ. يكفي أن يكون ثمة صدق على الورق، حتى يستوقفك النص، ويأخذك إلى عالمه كما فعلت هذه الرواية.
"لم أتغير"، التي صدرت عن دار "Meta Verse Press" للنشر والطباعة والتوزيع في باريس (2024)، ليست مجرّد سرد لحياة أو بوح عابر، بل هي شهادة امرأة على زمنها، وعلى التحوّلات التي عصفت بها وبمن حولها. لكنّها، وسط هذا الطوفان، تتشبّث بجوهرها، وتصرّ على أنها لم تتغيّر.
الرواية كُتبت بصوت أنثوي نقي، لا يُسقطنا في فخ الشكوى، ولا يتغنّى بالبطولات المصطنعة. بل تأخذنا الكاتبة معها إلى عوالم الغربة، غربة المكان حين تكون المرأة في مدينة لا تشبهها، وغربة الذات حين لا تعرف من تكون بعد أن يتكالب عليها الزمن. في الرواية بحث مستمر عن الذات في زحمة التفاصيل اليومية، محاولة للقبض على المعنى، والاعتراف بالألم، ولكن من دون فقدان الكرامة.
وفي مشهد مؤثر داخل الرواية، تُخبرنا صبحة عن فتاة رأتها في باريس، تُشبهها كثيرًا. كانت الفتاة تمشي بعينين زائغتين في محطة القطار، وكأنها تبحث عن نفسها وسط الزحام الأوروبي البارد. هذه اللحظة العابرة تتحول في يد الكاتبة إلى مرآة رمزية، تعكس فيها صورتها، وصورتنا جميعًا نحن الذين نكبر على الهامش، الذين نحلم، ونتعثر، ونحاول ألّا نفقد ملامحنا في الزحام.
لم تكن الرواية بالنسبة لي مجرد قراءة، بل صارت مرآة. رأيت فيها وجهي، ووجوه تلاميذي الذين أحمل همومهم في قلبي كل يوم. صوّرت صفحات منها لأشاركها معهم، لأقول لهم: "انظروا كيف تكتب امرأة عنكم وعنّا، عن الحب حين يتعب، عن الصبر حين يلين، عن الإنسان حين يتمسك بما بقي له من ذاته."
سر هذه الرواية لا يكمن في شهرة كاتبتها أو حجم توزيعها، بل في صدقها. إنها نصّ مكتوب بقلب امرأة تعرف الحياة، وتكتبها كما هي: قاسية، جميلة، متقلّبة، لكنها لا تُلغي من يؤمن بنفسه.
صبحة الراشدي، وإن بدت صامتة في وجه الضجيج الأدبي والإعلامي، اختارت أن تكتب من الأعماق. "لم أتغير" ليست مجرد رواية، بل موقف وجودي. هي صوت من لا صوت لهم، وكتابة تشبهنا، تنحني على هشاشتنا بلطف، وتربّت على أكتافنا كما تفعل الأم مع طفلها الخائف.
وبين دفّتي هذه الرواية، تقول لنا صبحة بكل شجاعة: "رغم كل ما جرى، لم أتغير."
كم نحتاج إلى هذا الصوت اليوم، في زمن يتغيّر فيه كل شيء من حولنا.