أوكسجين الشفاه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بيني وبين رَشْفِ الشفاهِ عَلاقةٌ وَطيدةٌ، كتلك التي تَربطُ بَينَ غريقٍ وقاربِ نجاة، أو مَريضِ ربوٍ وبخَّاخِ أوكسجين...؛ فَكُلَّما ضاقَ صدري بِكابوسِ الهُموم، وتَسلَّلَ الهمُّ إلى خاطري كَسارقٍ في الظلام، أهرعُ إليها كهاربٍ مِن سجنِ الذات ووحشة العزلة وضغط الوحدة، أو كابنِ سَبيلٍ يَئنُّ مِن عطشٍ قاتل، فإذا بِه يَرتَطمُ فجأةً بِوَاحةٍ تَفورُ بِمياهٍ عَذبةٍ، وتَتمايَلُ نَخيلاتُها حاملةً ثِماراً رَطِبةً كَقطراتِ ندى...؛ يَغرفُ الماءَ بِكَفَّينِ مُرتعِشتَين، ويَلتهم التمرَ بِشَغَفِ مَن يَذوقُ الحياةَ لأولِ مَرَّة...؛ هكذا أفعلُ أنا: ما إن تَلتقي عينايَ بِشفاهِها المُشرَعةِ كَبَوَّابةٍ لِعَالَمٍ آخَر، حتى أَهجُمُ عليها هُجومَ جَيشٍ مُنتشٍ بِنَصرٍ مُبين، لا أُفارقُها حتى يَتعَثَّرَ النَّفَسُ، وتَتسارَعَ دَقَّاتُ القَلبِ كَطَبولِ مَعركة، ويحمَرَّ الوَجهانِ كَأُرجُوانٍ نازف...؛ حينَها أَترُكُها لِبَرهةٍ، كَمن يُلقي بِجَسَدِهِ المُنهَكِ عَلَى سَريرٍ بَعدَ عُبورِ صَحراء، ثُمَّ أَعودُ لِأرشفَها مَرَّةً تِلوَ الأُخرى، كَمَسافرٍ يَخافُ ألّا يَعودَ إِلى الوَاحةِ قَط...؛ هكذا نَرقُصُ رقصةَ العَطشِ وَالاِختناق، حَتَّى يَشقَّ الفَجرُ جَبينَ اللَّيل، وتَتَحَوَّلَ الشفاهُ إِلى أُقحُوانةٍ تفوح عطراً وتعطي المكان أريجاً منقطع النظير، ينتشر عبقها كخيوط الفجر في الأجواء؛ لتملأ النفوس حباً وأملاً وبريقاً.