حين تنتصر الذاكرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
منذ أن تنفّس الكوردي أول أنفاسه بين قمم الجبال كتب القدر عليه أن يكون شاهدًا على الظلم، لتبدأ أول سطور الحكاية التي كتبتها الريح على صخور صلبة من الصبر، ولطالما كان الكورد ضحايا للتاريخ والجغرافيا معًا، فمنذ بدايات القرن الماضي تعرض هذا الشعب الأصيل لحملات إبادة ممنهجة لا تختلف عن تلك التي تنتهجها أكثر الأنظمة دموية في التاريخ، لذلك حين تكلّم الرئيس مسعود بارزاني في خطاب يقطر صدقًا، ألقاه في المؤتمر العلمي الدولي الخامس للتعريف بالإبادة الجماعية ضد الكورد، ليضع يده على الجراح العميقة التي خلّفها القرن العشرون في جسد شعب كوردستان، في الوقت ذاته فتح نافذة على فلسفة مغايرة تمامًا للتعاطي مع هذه الجروح، فلسفة لا تبحث عن الانتقام بل تسعى لبناء سلام يتذكر الماضي لئلا يعيد نفسه، ليستعيد صفحة من أكثر صفحات التاريخ الكوردستاني سوادًا، ويذكّر العالم أن الشقاء لم يكسر إرادة هذا الشعب وأن الجراح التي لم تندمل تحوّلت إلى دروس في الكرامة.
لم يتحدث الرئيس بارزاني كزعيم فقط، بل كذاكرة تستدعي من ظلال التاريخ ما يكفي لتذكير العالم بأن المأساة التي بدأت من الكورد الفيليين لم تكن صفحة عابرة بل جرحًا مفتوحًا في جبين الإنسانية، فمنذ الجملة الأولى التي قال فيها إن: "قدر شعب كوردستان على مر التاريخ كان دائمًا الشقاء والمعاناة والظلم"، بدا الخطاب أشبه بمرافعة إنسانية عن أمة خطّ على جبينها الألم لكنها أصرّت على أن لا تورّث الكراهية لأبنائها، فأعاد إلى الأذهان قرونًا من القهر من السيف العثماني إلى سوط البعث، من المقابر الجماعية إلى الغازات والأسلحة الكيميائية.
وبين ركام القرى التي دمرها النظام البعثي وبين صرخات الأمهات اللواتي ودّعن أبناءهن في حملات الأنفال والإبادة ولدت فكرة أخرى: أن الكوردي يستطيع أن يكون مظلومًا دون أن يتحوّل إلى ظالم، فالرئيس بارزاني لم يستدعِ التاريخ ليجترّ وجعه بل ليقول: "لقد رأينا الموت ولم نرَ الحقد"، عندما ذكر أن الكورد الفيليين والبارزانيين كانوا أول من اختبر عليهم السلاح الكيميائي في مناطق عكاشات والقائم، لم يكن يسرد واقعة للتاريخ فقط بل يذكّر الإنسانية جمعاء بأن التجارب الكيميائية لم تكن في المختبرات بل على أجساد بشر أبرياء.
كما شكّلت حملة الأنفال التي شنها نظام البعث البائد عام 1988 علامة فارقة في مسيرة القمع ضد شعب كوردستان، حيث قتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، وتم تدمير أكثر من 4500 قرية كوردية فيما يشبه محوًا كاملًا للحضور الكوردي من على الخارطة العراقية، ولم تكن فاجعة حلبجة التي راح ضحيتها الآلاف بالغازات السامة سوى حلقة أخرى في هذه السلسلة الدموية الطويلة، ومع ذلك لم تنكسر كوردستان، بل خرجت من رمادها كما تخرج العنقاء من قلب النار لتذكّر أن الدم لا يطهّره الدم.
لقد أكرم الله شعب كوردستان بالسلطة، فلم يرفع الكوردي سيف الانتقام بل رفع راية التسامح، فحين اندلعت الانتفاضة عام 1991 وسقط فيلقان كاملان من الجيش العراقي بيد قوات البيشمركة والمواطنين الكورد، لم ترفع سكاكين الانتقام بل أيدي العفو، فلم يُقتل كما لم يُهان أسير واحد، بالرغم من أن التاريخ كان يطالب بثمن باهظ، فهؤلاء أنفسهم الذين دمّروا القرى وأحرقوا الذاكرة وجدوا في جبال كوردستان وجهًا آخر للإنسانية وجيلًا تربّى على قيم أسمى من الثأر، ويؤكد الرئيس بارزاني أن هذا الموقف الإنساني النبيل يمثل مفارقة تاريخية عميقة، فالجيش الذي دمر قرى الكورد وارتكب أبشع الجرائم بحقهم يجد منهم الرحمة عندما تصبح القوة في أيديهم، وقد كان يمكن لكوردستان أن تشبع الأرض ثأرًا لكنها اختارت أن تشبعها كرامة، فتلك اللحظة لم تكن مجرّد صفحة من الحرب بل لحظة ولادة جديدة للضمير الكوردستاني، فالشعب الذي ذاق أنفاله وسمومه قرّر أن لا يكون صورة أخرى لجلاده، لأن من ذاق الظلم يعلم أن العدالة لا تقام على رماد الآخرين.
وبذلك تشكل تجربة شعب كوردستان نموذجًا حيًا لأهمية العدالة الانتقالية التي تعرفها الأمم المتحدة بأنها "تتألف من الآليات القضائية وغير القضائية على حد سواء بما في ذلك مبادرات الملاحقة القضائية والجبر وتقصي الحقائق والإصلاح المؤسسي"، وإن ما يؤكده الرئيس بارزاني في خطابه يتماشى مع الركائز الأساسية للعدالة الانتقالية التي تشمل: الاعتراف بمعاناة الضحايا وكسر حلقة الصمت والتجاهل، وكشف الحقائق التاريخية لما حدث لشعب كوردستان، وضمان عدم التكرار الذي يرتبط ببناء المؤسسات ومشاركة المجتمع المدني. وهنا تبرز حكمة بارزاني حين يشدد على أن "الأهم من كل شيء هو ضمان عدم تكرار تلك الجرائم التي ارتُكبت ضد الشعب الكوردي"، وكأنه يضع بين أيدينا وصيّة الذاكرة بأن لا نغلق دفاتر الألم بل نحرسها حتى لا يعاد فتحها من جديد، فالمأساة ليست فقط ما حدث بل ما قد يحدث إن نسي ما حدث.
لقد غفر الكورد ولم ينسوا وسامحوا دون أن يمحوا ذاكرتهم، لأن الذاكرة في كوردستان ليست أداة للانتقام بل بوصلتهم نحو مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية، وهكذا تخرج كوردستان من بين رماد القرن الماضي لتعلّم العالم درسًا بسيطًا وعميقًا، بأن العظمة الحقيقية لا تكمن في القوة بل في القدرة على الصفح، فكوردستان اليوم ليست جغرافيا من الجبال والأنهار بل جغرافيا من القيم، هي شهادة حيّة على أن العظمة لا تُقاس بما نملك من قوة بل بما نملك من إنسانية: أن تغفر دون أن تنسى، أن تنهض دون أن تدوس، أن تروي جرحك دون أن تزرع جرحًا في غيرك. تلك هي كوردستان التي أرادها الرئيس بارزاني، كوردستان التي ولدت من رحم المعاناة لم تختر طريق الدم بل طريق الحياة، وقدم الرئيس بارزاني في خطابه رؤية ناضجة للتعاطي مع الماضي الأليم، وهذا يتطلب بناء نظام سياسي وقانوني يحمي جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم، فالدروس المستفادة من التجربة الكوردستانية يمكن أن تكون نبراسًا للمناطق التي تعاني من صراعات مماثلة، حيث إن الانتقال من ثقافة الانتقام إلى ثقافة المصالحة كما تظهر التجربة الكوردية لا يقلل من حجم الجرائم المرتكبة بل يمنح الضحايا كرامتهم الإنسانية ويحوّلهم من مجرد أرقام في سجلات التاريخ إلى شركاء حقيقيين في بناء مستقبل أفضل، ويكون ذلك عبر الخروج من دوامة العنف التي أنهكت المنطقة لعقود إلى تبني ثقافة جديدة تقوم على الاعتراف بالآخر والعدالة الانتقالية وبناء مؤسسات تحمي الجميع، فالشعوب التي تتعلم من ماضيها فقط هي القادرة على كتابة مستقبل مختلف لأبنائها.
خطاب الرئيس بارزاني لم يكن مجرد كلمات عابرة، إنه بيان إنساني عميق ورؤية استراتيجية لمستقبل مختلف ترفض أن تكون هوية شعب كوردستان مرهونة بذاكرة الألم فقط بل تقدمها كشعب قادر على تحويل معاناته إلى طاقة إيجابية للبناء، فحين يتحدث الرئيس بارزاني لا يتحدث كزعيم فقط، بل كصوت أمة تعلّمت أن النبل لا يورث بل يُصاغ من وجع اسمه التاريخ، فمن بين صدى كلماته يخرج وعد خفي بأن ذاكرة الجبال ستبقى يقظة وأن أرواح الشهداء التي صعدت بكرامة لن تسمح للتاريخ أن يُكتب مرة أخرى بيد الجلادين.
لقد اختار شعب كوردستان أن يكون بطلاً للسلام بعد أن كان ضحية الحروب، وأن يكون شاهدًا على قدرة الإنسان على تجاوز أحقاده من أجل غد أفضل، وهذا هو أعظم انتصار على الظلم.
التعليقات
امة مظلومة
ابو تارا -اذا الشعب يوما اراد الحياة فلاب لليل الكورد ان ينجلي ولقيدهم ان ينكسر مهما طال الزمن وكبرت التضحيات تحية للكاتب