حماس تفقد ثقة الشارع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يعيش قطاع غزة واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه، التي لا قد تهدد مسار القضية الفلسطينية، نتيجة ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومحاولة نتنياهو ومن خلفه اليمين المتطرف تدمير قطاع غزة بالكامل وتهجير سكانه، والمحاولات المستمرة لضم أراضي الضفة الغربية، وهو نتاج القرار غير المدروس لعملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
ما حدث من دمار على كافة المستويات في غزة أدى إلى تصاعد الأصوات الشعبية الغاضبة ضد حركة حماس، التي باتت في نظر شريحة واسعة من السكان جزءًا من الأزمة وليس الحل. المعاناة اليومية الناجمة عن الحصار الطويل، وندرة الغذاء والدواء، وانهيار الخدمات الأساسية، لم تعد تُفسر فقط بوصفها نتيجة مباشرة للظروف السياسية المعقدة أو العدوان الإسرائيلي المستمر، بل أصبحت تُرى أيضًا كحصيلة لسوء إدارة حماس وتغليبها للأولويات السياسية والعسكرية على احتياجات الناس المعيشية.
الغزيون في أحاديثهم العفوية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في الأسواق المزدحمة، لديهم غضب دفين من ممارسات الحركة التي يُنظر إليها على أنها احتكرت القرار، واستحوذت على الموارد، وضيقت على الأصوات الناقدة. هذا التحول في المزاج الشعبي لا ينبع من انحراف في الانتماء الوطني، بل من تراكم الإحباط بعد سنوات من الوعود التي لم تتحقق والمشروعات التي توقفت عند الشعارات. المواطن الذي يقف ساعات في طوابير الخبز أو الغاز لم يعد يجد مبررًا مقنعًا لاستمرار هذا الوضع في ظل إدارة ترفع شعار المقاومة بينما تتراجع سبل الحياة الكريمة يومًا بعد يوم.
منذ سيطرة الحركة على القطاع عام 2007، رأت فيها بعض الفئات رمزًا للصمود والمقاومة، لكنها اليوم تجد نفسها أمام أسئلة قاسية حول جدوى هذا المسار، خاصة مع تدهور البنية التحتية وتفشي الفقر والبطالة. وحتى الدعم الخارجي الذي يتدفق على غزة كثيرًا ما يُتهم بأنه يدار بعيدًا عن الشفافية ويتحول إلى مشاريع حزبية أو نشاطات ذات طابع سياسي لا تلامس احتياجات الناس الفعلية. ومع استمرار هذا النهج، تتآكل الثقة بين الحركة وقواعدها الاجتماعية التي كانت تمثل مصدر شرعيتها الأهم.
ما يضاعف من حدة الانتقادات أن حماس، وفقًا لشهادات متعددة من داخل القطاع، لم تعد تستوعب حجم الغضب الشعبي، بل ترد عليه بالخطاب ذاته الذي استخدمته منذ سنوات، خطاب المؤامرة والحصار، غير أن هذا التبرير لم يعد يُقنع الناس الذين يعيشون الواقع يومًا بيوم. الجوع لا يمكن تفسيره بالمؤامرات، والدمار لا يمكن ربطه فقط بالعدو، حين يشعر المواطن أن من يحكمه لا يشاركه الألم بل يتعامل معه كأداة ضغط أو ورقة تفاوض.
تصاعد النقد لا يعني بالضرورة انهيار الحركة سياسيًا أو تنظيميًا، لكنه يكشف عن تحول نوعي في العلاقة بينها وبين الشارع. الناس الذين طالما قدموا أبناءهم فداءً لمشروع المقاومة بدأوا يسألون عن الثمن الإنساني، عن مستقبل أطفالهم، وعن معنى أن يعيشوا عقودًا في انتظار "نصر" لم يأت بعد. هذه الأسئلة تحمل في طياتها بداية وعي جديد يرفض اختزال القضية الفلسطينية في بعد عسكري ضيق، ويطالب بإعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية كجزء من النضال ذاته.
لقد آن لحماس أن تُدرك أن إدارة مجتمع محاصر تتطلب أكثر من الشعارات، وأن الشرعية لا تُستمد من السلاح وحده، بل من قدرة الحاكم على تخفيف معاناة الناس. واستمرار الانفصال بين خطاب "المقاومة" وواقع الجوع والفقر سيؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى فقدان ما تبقى من التعاطف الشعبي معها، وإذا لم تُراجع الحركة أولوياتها وتفتح المجال أمام إدارة مدنية أكثر شفافية ومشاركة، فإنها تخاطر بأن تتحول من رمز للمقاومة إلى عبء على مجتمع أنهكته الأزمات.
إنَّ ارتفاع نبرة الانتقادات اليوم ليس مجرد تمرد ظرفي، بل تعبير عن حاجة الناس إلى صوت جديد داخل غزة، صوت يعيد تعريف المقاومة بوصفها سعيًا للحياة لا تبريرًا للموت، ويعيد للإنسان الفلسطيني مكانته في قلب القضية لا على هامشها.