"إيلاف" تنشر فصولاً من كتاب "جيش بوبسكي الخاص"
في حضرة شيوخ الجبل الأخضر: رحلة إلى تاريخ ليبيا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في هذه الحلقة الثالثة من كتاب "جيش بوبسكي الخاص"، والتي تحمل عنوان "مؤتمر العبيدات"، رحلة عبر وادي القصور جنوبًا تستعرض مناظر طبيعية خلابة وأطلالًا رومانية عتيقة، وتصف لقاءً مع شيوخ قبائل العبيدات حيث يجري تبادل التحيات التقليدية وتقام الطقوس المتوارثة. تحت الشمس الصباحية، يعلو صوت شيخ القبيلة للصلاة، ويجتمع الجميع في مجلس مليء بأصالة الضيافة وعراقة الإرث، حيث يتبادل الضيوف الشاي والكلمات الودّية وعبارات التضامن ضد العدو المشترك.
د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي: من قمم الجبال المليئة بالأشجار، ركبنا جنوبًا ثم هبطنا على طول وادي القصور. كانت المناظر الطبيعية مثل ضاحية؛ كتل من الأشجار الصغيرة والأعشاب على طول ضفاف الوادي، والصخور الكبيرة والحصى، التي تجف الآن في شهر أيار (مايو)، وفي الشتاء تتساقط مياه الفيضانات الصفراء وتحمل أشجارًا ذابلة سوداء اللون تصطف على الضفاف مثل بقايا حريق غابة (إقرأ الحلقة الأولى هنا). كانت المنطقة مكتظة بالسكان وقاحلة، خالية من الحياة والمأوى، وعلى طول شريط الوادي، توجد هضبة صفراء مرتفعة محاطة بالعديد من المنازل، محاطة بجدران من قبل "الرومان" لغرض ما. العرب لا يبنون، وحيثما وجدوا حجارة منحوتة معًا يقولون إنَّ الرومان وضعوها. قبل ألف ومئة عام، استولى جيش الإسلام على هذه المقاطعة من الإمبراطورية الرومانية، لأنه بالنسبة إلى السكان، يبدو أن الذكريات الحية تعيدهم تقريبًا إلى عظمة روما.
على ظهور الخيل
كانت الكهوف، التي تعطي اسمها للمكان، والتي كانت فارغة الآن، تُستخدم لتخزين الحبوب في أوقات أكثر ازدهارًا، وكانت الكهوف الأعلى، التي لم تتلوث بالماشية، نظيفة وخالية من القراد. وجدت نفسي في منزل أعلى جانب الوادي؛ يمكن الوصول إليه من خلال التسلق الهيِّن. شق في الصخر، وبه نافذتان تطلان على غيرهما. كان سعد علي ومتولي الله، ومعهما الطعام والخدم، قد وصلوا بالفعل إلى الردهة عند وصولنا، وكذلك فعل بعض رفاقنا، كما جاء آخرون على ظهور الخيل في اليوم التالي. وصل الشيخ علي بوحامد العبيدي مبكرًا ونزل في الكهف. كنت قد نشرت مراقبين على تلة على مسافة ما أسفل الوادي، وعندما أبلغوني عند غروب الشمس عن اقتراب الشيخ عبد القادر بوبريدان العبيدي، خرجت لاستقباله. كان رجلاً قوي البنية، تجاوز الثمانين من عمره، وله شارب أبيض ولحية مدببة، وكان يرتدي برنسًا بلا غطاء تحت سترته البيضاء الواسعة، مما جعله يبدو ضخمًا للغاية بالنسبة لفرسه الصغير، التي كانت زخارفها وشراشيبها (زينتها) السوداء والقرمزية تتدلى إلى الأرض. صاح الرجل بصوت عميق أجش، وتصافحنا مرارًا وتكرارًا دون أن ننزل. ثم ركبنا معًا إلى المخيم، وتبادلنا التحية الرسمية المعتادة. لا يوجد معنى يضعه العرب في هذه الكلمات أكثر مما نضعه نحن عندما نقول ونرد: كيف حالك؟ ثم نكرر: كيف حالك؟ وربما.
بعد ذلك بقليل: حسنًا، كيف حالك؟ "إشرب"، "كل التوفيق"، "صحتك جيدة جدًا"، "بارك الله فيك".
الرجولة الصريحة والمرح الخشن
التحية العربية، وهي أسلوب حياة هادئ ومهذب، أكثر عددًا من تحياتنا، ويتم تبادلها مرات عديدة، عادةً بصوت مقطوع بلا نبرة، ويتم الرد عليها على حد سواء، مع إمالة طفيفة للرأس، ورفع اليد نحو القلب. ولكن من الغرابة المعترف بها بين أهل العبيدات (والجبل الاخضر بصفة عامة)، أنهم كانوا يضعون في تحياتهم تلك النغمات الرقيقة الطويلة من الاهتمام الرقيق التي استخدمها علي بوحامد آلعبيدي إلى حد التكلّف. ولم يكن الأمر كذلك مع عبد القادر بوبريدان العبيدي، الذي كانت تصنّعه في الاتجاه المعاكس، نحو الرجولة الصريحة، والمرح الخشن. في وقت لاحق من المساء، جلسنا القرفصاء لتناول وجبة، وكان عددنا حوالي ستين شخصًا؛ ولأن بعض الشيوخ ما زالوا في طريقهم، لم تبدأ الإجراءات الرسمية حتى صباح اليوم التالي. خلال الليل، ركب بقية ضيوفنا مع مرافقيهم وانتشروا ذهابًا وإيابًا في الوادي، وعُرقلت (عُقلت) الخيول والإبل ووضعت للرعي؛ وأشعلوا النيران وغُليَ الشاي. لقد تركت سعد علي لاستقبال أصدقائنا ثم تقاعدت إلى منزلي الروماني أعلى الجرف لقضاء ليلة نوم معقولة. كان الغد يومًا مليئًا بالكلمات وكنت بحاجة إلى ذهن منتعش وذكاء وانتباه واضح.
رجل من أهل الحرب
عند شروق الشمس، قاد ( أمَّ المصلين) عبد القادر بوبريدان العبيدي الصلاة، وتم توزيع الشاي على الجميع ثم دعوت الشيوخ إلى الظل تحت صخرة متدلية عند سفح الجرف. جلسوا القرفصاء في دائرة متعددة الصفوف وواجهتهم بعبد القادر بوبريدان العبيدي عن يميني، وعلي بوحامد العبيدي عن يساري؛ وكان سعد علي، خلفي، مستعدًا، عند الضرورة، لتفسير العبارات الغامضة وإخباري بأسماء المتحدثين، الذين لم أكن أعرف الكثير منهم بالطبع. وقفت وقلت وأنا أختار كلماتي:
"بسم الله الرحمن الرحيم، الشيخ عبد القادر بو بريدان ، الشيخ علي بو حامد، شيوخ عشائر وعائلات العبيدات ، عرب الجبل الأخضر، السنوسيون المخلصون، الإخوة: يؤسفني أنني في هذا اليوم العظيم لا أستطيع مخاطبتكم بالطريقة الصحيحة والكلمات المناسبة، لساني أسود لأنني لست علامة، أو خطيباً، لكنني جندي، رجل ليس من أهل المعرفة بل من أهل الحرب، يأتي إليكم من أرض أجنبية، يجهل لغتكم غير أنه أخ لكم، أخ في السلاح، يقاتل معكم ضد عدونا المشترك، المغتصب لأرضكم، قاتل أقاربكم، سارق قطعانكم، عدو المؤمنين".
عدو المؤمنين
توقفت لالتقاط أنفاسي، بينما كان عبد القادر يهز رأسه موافقاً على كلامي، يردد بصوته الجهوري: "قاتل أقاربكم، سارق قطعانكم، عدو المؤمنين". وسرت همهمة بين المستمعين المجتمعين. نظرت حولي إلى السيد علي بوحامد، الذي غمز وقال هامساً: "ممتاز، استمر. لا تذكر لسانك الأسود بعد الآن، إنها كلمة مصرية".
يتبع حلقة رابعة...
في الحلقة الأولى: دور قبائل شرق ليبيا في الحرب العالمية الثانية
في الحلقة الثانية: في ليل ليبيا الدامس: تحالفات سرية وجواسيس ضد الاحتلال الإيطالي