في هذه الحلقة الثانية المترجمة من كتاب "جيش بوبسكي الخاص"، سرد عن لقاءات سرية وتعاون مع الشخصيات العربية الليبية في ظل الحرب العالمية الثانية، وكشف عن جهود التجسس وتحالفات سرية بين المقاومة الليبية والقوات البريطانية ضد الاحتلال الإيطالي.

د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي: "كان علي بو حامد آلعبيدي حريصاً على عدم الاستسلام لأي شكوك إيطالية: كان يعيش في ذلك الوقت مع أسرته وأتباعه، ليس في خيام، بل في كهوف تسمى "كهف حروة" Kaf Herwa في واد بري (كما أورد الكاتب بالإنجليزية في كتابه)، ومن الصعب الوصول إليه، ولكن ليس على بعد أكثر من ثلاثة أميال من "أكوا فيفا"، وهو موقع عسكري إيطالي على الطريق الرئيسي (إقرأ الحلقة الأولى هنا). عرضت عليه أن أقابله بأمان، بعيداً عن منزله، لكنه أرسل إليَّ رسالة مفادها أنه يريدني أن أكون ضيفه في هذه المقابلة الأولى، وأنه سيرسل في طلبي إلى قرية ام احفين في الليلة التالية.

أضافت الرسالة أنه بما أنه يستطيع التحدث باللهجة المصرية، فلن تكون هناك حاجة إلى شخص ثالث للترجمة أثناء حديثنا. لقد أدركت أن هذا لم يكن انعكاساً لجهلي باللغة العربية الليبية، والتي كانت ضعيفة في ذلك الوقت في الحقيقة، بل كان إشارة إلى أنه لم يكن يرغب في أن يكون سعد علي رحومة شريكاً في مناقشاتنا، لأنه كان يكره ويحتقر ملازمي الذي اعتبره محتالاً ـ جندي شجاع حقاً ولكنه يميل إلى التباهي - ومن قبيلة غامضة للغاية، بحيث لا يُسمح له ان يكون بمعية اجتماع شيخ إعبيدي.

شبحان في الطريق
في منتصف الليل، وصل رسول علي بوحامد آلعبيدي إلى خيمة مضيفنا، مرتدياً عباءة سوداء ويمتطي حصاناً أسود. انطلقنا في الليل العاصف المظلم مثل شبحين. وبعد ساعة من الركوب الأعمى عبر بلاد وعرة وصخرية، توقفنا في منحدر صخري حيث طلب مني مرشدي النزول، وألقى عباءته السوداء عليّ. وطلب مني الانتظار واختفى في الليل. لاحقًا، خرج ظل طويل من الظلام بصمت، وضغطت يد على يدي وسمعت الصوت الخافت الشجي الذي أتذكره جيدًا يحييني باهتمام قلق.

ضغط ذراعه بحنان على يدي، ساعدني على الصعود إلى منحدر، عبر شق غير مرئي في الجرف، وازاح ستارة وقادني خارج الليل المظلم إلى كهف واسع ومشرق، مضاء بأربعة مصابيح ضغط مبهرة، وكلها معلقة بالسجاد.

في جوف الجبل
سجاد تحت الأقدام، وسجاد على الجدران وفي المنتصف أريكتان زنبركيتان مكدستين بوسائد ناعمة. وأخذ جردي (لباس من صوف طويل يشبه الفرو البدوي أو العباءة الصوف) من كتفي، ووضع يديه على كتفي وابتسم لي بفرح. كانت إدارة المسرح رائعة وذهولي غير مصطنع.

ضحك علي بوحامد، وقطع التحية الرسمية المعتادة، وساعدني على خلع حذائي، وضعني على الوسائد بشكل مريح وصفق بيديه. ظهر خادم من جوف الكهف يحمل إبريق شاي وكؤوساً.

قلت: صديقي الشيخ علي، الحكومة البريطانية، وأميرك السيد إدريس السنوسي، يعلمون الصداقة التي بينك وبيني، أرسلوني إليكم حتى أتمكن بمساعدتكم من توجيه وتقديم المشورة ومساعدة شعبك وكل السنوسيين المؤمنين في الجبل الأخضر، في نضالهم ضد العدو المشترك. تريد حكومتي أيضًا أن تكون على علم بنيات العدو وتصرفاته وقوته. لا شائعات عن ألف دبابة في الأبيار والتي تبين أنها ليست أكثر من شاحنة مياه ودراجتين ناريتين في لملودة. نريد الحقائق. للحصول عليها نريد جواسيس في مقر العدو، في المطارات، في مخازن الذخيرة والوقود. نريد عيونًا تراقب كل طريق وكل ميناء، ليلًا ونهارًا.

أعمال انتقامية
وأخيراً ختمت قائلاً: "سأقوم بإرسال فرق مداهمة لتفجير مستودعات الوقود والذخيرة، ولن يحدث هذا إلا عندما تتقدم جيوشنا إلى الأمام ويتم تنفيذ العمل بطريقة لا يمكن أن يتورط فيها أي عربي على الإطلاق". لم أتحدث أكثر عن هذا الموضوع، ولكنني عدت بسرعة إلى النقطة الأولى: "أما فيما يتعلق بنصح العرب بأفضل مسار عمل له، في الأيام القليلة الماضية، كان بعض أصدقائنا متهورين ويريدون الأسلحة لمحاربة العدو. يجب أن أخبرك أن مثل هذا العمل هو بالضبط ما لا نريده. لن تساعد الوخزات ضد الإيطاليين جيشنا، بل ستجلب أعمالاً انتقامية كارثية ضد العرب، والتي لن نتمكن من منعها، وستفقد حكومتي أعينها وسياراتها. لا نريد عملًا مباشراً الآن، ربما لاحقًا، ليس الآن".

أجاب علي بوحامد آلعبيدي فقال: "عبد القادر بو بريدان كبير في السن، ولكن دمه لا يزال حاراً (حامياً). إنه يريد القتال. إنه يعتقد أن الحرب قد انتهت تقريباً، وأنه إذا لم نتحرك الآن فسوف نضيع فرصتنا، وعندها سيعتقد الإنجليز أننا لم نفعل شيئاً للمساعدة. ولديه العديد من الأصدقاء".

خدم وجواسيس
أدركتُ ما يواجه علي بوحامد من صعوبة، وأخبرته أنني أعتزم الدعوة إلى مؤتمر يضم جميع شيوخ العبيدات تحت قيادة عبد القادر، وأنني سأجد الوسائل لإخماد حماستهم دون زعزعة إيمانهم بالنصر البريطاني. قلت له: "أنت وأنا نستطيع إقناعهم. لكن لا أحد يجب أن يعرف أننا وضعنا خططنا، وأننا اتفقنا على الخطط مسبقاً". أومأ علي بو حامد آلعبيدي برأسه موافقاً، وقال: "إن الأمر أفضل على هذا النحو. والآن ما هي المعلومات التي تريدها عن العدو؟". أخبرته، بتفصيل كبير، وتعهد بتوسيع شبكة جواسيسه لدى الايطاليين لتلبية متطلباتي. وكان مصدره الرئيسي للمعلومات هو العرب الناطقين بالإيطالية الذين يعملون كخدم في المقر الرئيسي وفي إعداد الطعام.

وثائق وعيون
كان الإيطاليون يتركون الوثائق ملقاة على المكاتب، ولم يشكوا قط في أن خدمهم يفهمون لغتهم بل ويقرؤونها. وفي الليل كان الخدم يلتقون بأصدقائهم في الشارع، أو تحت خيام الرعاة المجاورين، وكانوا يتبادلون المعلومات، ثم يختفي الفرسان في الليل حاملين رسالة محفوظة في الذاكرة جيداً. وعد علي بوحامد آلعبيدي بترتيب نقل الرسائل إلى مقري عندما يتم إنشاؤه. قال "لن تأتي الرسائل مني" - أومأت برأسي موافقاً- "الشيخ عبد الجليل بوالطيب سوف يتولى الأمر". قلت: إنه رجل شريف، ليس من الضروري أن نلتقي مرة أخرى على انفراد. هذا أفضل".

لم تكن هناك حاجة إلى التكلّف مع علي بو حامد آلعبيدي، لقد فهمنا بعضنا البعض تماماً. أعطاني أسماء الرجال الذين أراد دعوتهم إلى المؤتمر الذي اقترحته للشيوخ، وافترقنا بكلمات قليلة، حيث كان الليل قد انتهى تقريباً.

منافسة وتآمر
وصلت إلى قرية ام احفين قبل الفجر، وأيقظت سعد علي رحومة، وانطلقت لزيارة عبد العزيز بو يونس الذي كانت خيامه منصوبة على بعد خمسة أميال في وادٍ شديد الانحدار من الحصى الأسود بالقرب من بئر الديي. لقد اخترت هذا الشاب المتغطرس والغبي للغاية، ذو الشارب الأسود العريض، لأنه كان ابن شقيق الشيخ عبد القادر بوبريدان. كان لديه أمل في خلافة عمه كشيخ العبيدات، وبدلاً من ذلك انتهى به الأمر نهاية مبكرة وغير متوقعة بعد بضعة أشهر. ولكن عندما دخل علي إلى خيمته في ذلك الصباح وأعلن عن زيارتي، وكان مسرورًا ومرتاحاً، لأنه كان يخشى أن أزور علي بوحامد آلعبيدي، المنافس على الخلافة كشيخ العبيدات، وليس هو. لقد جرى استقبالنا استقبالاً ملكياً. كان سعد علي مبتهجاً، على ما أظن، لأنه تجنب مقابلة محرجة مع عدوه القديم، في مزاج مرتاح. لقد أطلق النكات مع العديد من ضيوفنا في حفل العشاء ونادى على السيدة العجوز (والدة مضيفنا) خلف حاجز القماش مدعياً انه هو الذي خطبها منذ ثلاثين سنة.

يتبع حلقة ثالثة...

في الحلقة الأولى: دور قبائل شرق ليبيا في الحرب العالمية الثانية