نقد أدبي
"بندقية أبي".. نضال وهوية عبر أجيال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف من فيينا: رواية "بندقية أبي" للكاتب والسينمائي الكردي هينر سليم تُعد عملاً أدبياً استثنائياً يجمع بين السيرة الذاتية والحكاية الجماعية للشعب الكردي. عبر صفحاتها، تتجسد معاناة أمة بأكملها في شخصياتها وأحداثها، مما يجعلها شهادة أدبية عن النضال، الهوية، والصمود. الرواية ليست مجرد سرد شخصي، بل هي مرآة تعكس محطات التاريخ المأساوي للكرد، وتُبرز كيف أن النضال يتحول من فعل مادي إلى رمز ثقافي وفني.
يُقدم الكاتب بندقية الأب، "برنو"، كرمز مركزي في الرواية. ليست البندقية مجرد أداة حرب، بل هي جزء من الهوية الكردية، وشاهد على نضال طويل ضد القمع والاحتلال. في حياة شرو سليم ملاي، والد الراوي، كانت البندقية بمثابة الرفيق الذي لا يفارقه، مما يعكس مدى ارتباط النضال اليومي بحياة الكردي البسيط.
محو الهوية الكردية
تُظهر الرواية كيف أن السلاح كان ضرورياً في مواجهة الأنظمة التي سعت إلى محو الهوية الكردية. ورغم ذلك، يشير الكاتب إلى أن النضال الحقيقي يتجاوز استخدام السلاح، ليشمل الإبداع والفكر. هنا، يبرز تحول النضال في حياة آزاد، ابن شرو، الذي يختار الكاميرا وسيلة لعرض قضية شعبه، مما يُبرز بُعداً جديداً للنضال يركز على القوة الناعمة للتأثير الثقافي.
تُوثق الرواية محطات حاسمة في التاريخ الكردي، بدءاً من قيام جمهورية مهاباد في إيران، وصولاً إلى النضالات التي قادها ملا مصطفى البارزاني. يعكس الكاتب بمهارة خيبات الأمل المستمرة للكرد، الذين طالما عانوا من خيانة القوى الدولية. في هذا السياق، يظهر المثل الكردي "لا أصدقاء سوى الجبال" كخلاصة للمرارة التي يشعر بها الكرد.
يعانون ويأملون
من خلال شخصية الأب، تسلط الرواية الضوء على الشجاعة والتضحيات التي قدمها المقاتلون الكرد، المعروفون بـ"البيشمركة". ورغم تصويرهم كأبطال، فإن الرواية لا تُخفي الجانب الإنساني لهؤلاء المقاتلين، الذين كانوا في نهاية المطاف بشراً يعانون ويأملون.
تُبرز الرواية أزمة الهوية الكردية كأحد المواضيع الرئيسية. يعيش الكرد في صراع مستمر مع هويات مفروضة عليهم من قبل الأنظمة المتعاقبة. من خلال السخرية التي يستخدمها آزاد، يُظهر الكاتب التناقضات التي عاشها الشعب الكردي. يقول آزاد: "كان جدي كردياً على أرض حرة، ثم أصبح عثمانياً، ثم تركياً، ثم عراقياً". هذا التصريح يُجسد فقدان الانتماء الوطني والشعور المستمر بالغربة.
الأب، شرو، يُمثل جيلاً لم يشعر يوماً بالانتماء لدولة العراق. بالنسبة له، كان الحلم دائماً هو كردستان حرة. من جهة أخرى، يُظهر آزاد كيف أن الهوية الكردية ليست مجرد مسألة سياسية، بل هي شعور عميق يتجاوز الجغرافيا والسياسة.
الكاميرا كأداة لتوثيق الهوية
تشكل الهجرة موضوعاً محورياً في الرواية، حيث يُقرر آزاد مغادرة وطنه في سن مبكرة بحثاً عن طريقة جديدة للنضال. يأخذ آزاد معه رموزاً تعبّر عن هويته الكردية: شريط أغاني كردية، كتاب شعر كردي، وزيّاً تقليدياً. في المنفى، يتحول آزاد إلى مخرج سينمائي يستخدم الفن لنقل معاناة شعبه إلى العالم.
غلاف رواية "بندقية أبي"
الهجرة في الرواية ليست هروباّ، بل إعادة تعريف للنضال. تتحول الكاميرا إلى أداة لتوثيق الهوية الكردية، مما يُظهر أنَّ الكفاح يمكن أن يكون أكثر تأثيراً عندما يتم تقديمه بلغة الفن والإبداع.
البصق على صورة الرئيس
تمتزج الرواية بسخرية سوداء تُظهر عبثية الواقع السياسي والاجتماعي. في أحد المشاهد، يصف الكاتب نادلاً يضطر إلى البصق على صورة الرئيس صدام حسين لتسهيل تنظيفها، في مشهد يُظهر التناقضات اليومية التي عاشها الناس في ظل الديكتاتورية.
كما تسلط الرواية الضوء على مأساة وفاة ابنة أخ آزاد بسبب إهمال طبيب وصفها بأنها "ابنة إرهابي". هذه الحادثة تُبرز مدى قسوة الحياة اليومية للكرد تحت القمع، وتعكس الظلم الذي كان جزءاً من حياتهم.
رغم التركيز على النضال، تُبرز الرواية الجانب الإنساني من خلال تصويرها للحياة العائلية. في مشهد مؤثر، يتخلى الأب عن آخر حلي والدته الذهبية لتعليم ابنه. هذا المشهد يُظهر التضحيات التي تقوم بها الأسرة الكردية من أجل مستقبل أفضل.
تُظهر الرواية أيضاً التوترات العائلية الناتجة عن النضال. أفراد الأسرة يتفرقون بين القتلى، واللاجئين، والمعتقلين، مما يُبرز الألم المزمن الذي يعانيه الكرد. ورغم كل هذا، تظل الأسرة رمزاً للأمل والاستمرارية.
مصائر متباينة
تختتم الرواية برصد مصائر مأساوية لأبطالها. يموت الأب في المنفى، ويُحرم آزاد من حضور جنازته. أفراد الأسرة يواجهون مصائر مختلفة، تعكس الألم المزمن الذي يعيشه الشعب الكردي. ومع ذلك، تظل الرواية شهادة على الأمل والإصرار على البقاء.
تُظهر الرواية أن النضال ليس مجرد فعل مادي، بل هو حالة مستمرة من الحلم والإبداع. من خلال الفن، يتمكن آزاد من إعادة صياغة قضية شعبه وتقديمها للعالم، مما يجعل الرواية دعوة للتأمل في معاناة أمة لا تزال تكافح من أجل حريتها.
رواية "بندقية أبي" ليست مجرد قصة شخصية لعائلة كردية، بل هي وثيقة أدبية تعكس مأساة أمة بأكملها. بأسلوب يجمع بين الواقعية والرمزية، تُبرز الرواية قضايا الهوية، والسياسة، والنضال، مع التركيز على الإبداع كوسيلة للتغيير. إنها شهادة على الصمود والأمل، ودعوة للتفكير في قوة الحلم والإبداع في مواجهة الظلم.