قصة قصيرة
حواس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم أكن على درايةٍ من قبل بتلك القدرة العجيبة للصمم. فأنا على هذه الحالة منذ أن سقطتْ تلك القذيفة بقربي وسلبَت السمع مني بعد أن فتكتْ بطبلتيْ الأذن كما يثقف قميص العيد طفلٌ متهوّر.
قد صار لي الآن قدرة على قراءة الأفكار وكأنها جائزة ترضية من الدهر عوضاً عن الحاسة التي تلاشت. أسير يومياً بين أفواج الرؤوس "العارية" تماماً لتنفلش أمامي المشاعر والأفكار المكتنزة في أذهان أصحابها كما تنفلش الكلمات أمامي في كتابٍ مفتوح.
أعبر الشارع غير منتبهٍ لسيارةٍ مسرعة تقترب مني بتهوّر قبل أن تحول المكابح دون ملاقاة حتفي في اللحظة الأخيرة. صحيح أنني لم أستطع سماع زعيق المكابح والأبواق التي ملأت الفضاء من حولي، لكني استطعت سماع دويّ الشتائم الداخلية التي انفجرت في دماغ السائق والتي طاولت شجرة عائلتي من أعمقٍ جذرٍ لأعلى ورقةٍ فيها.
أهرب من الشارع إلى مقهى بحريٍ هادئ علّني أنعم بإجازةٍ مؤقتة، فيطالعني عالم "ما وراء الطاولات" بالكثير من الخبايا التي تنفذ إليّ دون سواي من روّاد المقهى.
في الركن البعيد، شابةٌ تلعن بخلدها صاحبها البخيل الذي اكتفى بكأسٍ من العصير قاسمها إياها طوال ساعتيْن من الجلوس. في الركن الآخر يجري صحفيٌّ حواراً مع كاتبٍ تبدو عليه امارات النشوة بما حققه من شهرةٍ وامتداد. ويقيناً لو أنه سمع ما أتلقّاه من خاطر الصحفيّ لانتشل الشوكة الموضوعة أمامه وغرزها في قلب الصحفي.
حتى النادل استطعْت قراءة سيرته الذاتية من خلال تدفّق أفكاره الدائم. أدركْت بالأرقام مدى ضآلة الراتب الذي يتقاضاه والبؤس الذي دفعه لصبّ اللعنات على جميع الروّاد بمن فيهم أنا حيث نعتني بـ(المسطول) وهو يدفع نحو بابتسامته المعهودة فنجان القهوة الذي طلبْته منذ دقائق.
اليوم بالذات، شعرْت بالحاجة لإنهاء هذا الوضع المزري. على حافة بناءٍ شاهق، وقفْت مستعداً للقفز والتضحية بحواسي الكاملة هذه المرّة مقابل إيقاف هذه الفوضى الداخلية التي سكنتْني بالكامل.
- أنظر هناك! سيحلّق مثلنا.
قالها طائرٌ لرفيقه أثناء تحليقهما بالمكان. سمعته بمقدرتي التي طاولت أفكار الحيوان.
- لن يستطع. لا يملك جناحيْن مثلنا. مجرّد حبانٍ آخر يفكّر بالهروب من الحياة.
أنقذني ذلك الاستفزاز في اللحظة المناسبة. سحبْت قدمي وابتسمْت شاكراً الطائر على إنقاذه حياتي دون قصد.
دائماً ما كنت أقرأ عن قدرة الضربة الثانية على إرجاع ما سلبتْه الضربة الأولى. ولذلك عدْت إلى الحفرة الضخمة التي أحدثها الانفجار حيث سُلِب مني السمع ومُنِحْت تلك القدرة اللعينة، بانتظار أن تصل قذيفة أخرى وتقلب الأمور رأساً على عقب وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
أحضر إلى هنا كلّ يوم حاملاً زادي وشرابي بعيداً عن الكائنات وأفكارها المرعبة. أنتظر وصولها بفارغ الصبر… وما زلت أنتظر!