كتَّاب إيلاف

انكسارات يساريّ تونسيّ

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

قليلون هم الذين كتبوا تجاربهم ومحنهم المريرة في سجون بورقيبة في السبعينات من القرن الماضي.ومن أبرز هؤلاء يمكن أن نذكر جلبار نقاش، وفتحي بالحاج يحي، ومحمد الصالح فليس الذي أصدر مؤخّراعن دار "نقوش عربيّة"، كتابا ضخما (550 صفحة) حمل عنوان :”سجين في وطني". وفي هذا الكتاب هو يستعرض فصولا مؤلمة من سيرته السياسية منذ أن كان شابّا يافعا، وحتى مطلع الثمانينات.

وكان جيل السبعينات من القرن الماضي قد فتن بالماركسيّة، وبالثورات الإشتراكية المتمثلة بالخصوص في الثورة البلشفيّة بزعامة فلاديمير ايليتش لينين، والثورة الصينيّة بزعامة ماو تسي تونغ. والبداية تمثلت في تأسيس منظمة يسارية في أواخر الستينات. وقد أطلق على هذه المنظمة اسم:”منظمة آفاق". والذين أسسوها كانوا طلبة مثقفون تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين. والبعض منهم كانوا قد دَرَسُوا في الجامعات الفرنسيّة، وعادوا الى تونس مفتونين بالماركسيّة بجيمع فروعها لينطلقوا في كتابة نصوص نظريّة باللغة الفرنسيّة، ينتقدون فيها الجوانب السلبيّة في نظام بورقيبة، متمثلة بالخصوص في غياب الحريات والديمقراطية، وفي احتكار حزب واحد للسلطة، وفي سياسة اقتصادية متناقضة مع مصالح الطبقات الفقيرة. وعقب حرب الأيام الستة التي انتهت بهزيمة عربيّة مروّعة، انفجر غضب الطلبة والمثقفين اليساريين بمختلف مشاربهم ضدّ نظام بورقيبة، فاندفعوا إلى الشوارع رافعين شعارات تتهم النظانم القائم ب"الجبن"، وب"الخيانة". وكان ردة فعل النظام قاسية وعنيفة. فقد تمّ اعتقال أبرز قادة تلك التظاهرات، وإصدار أحكام قاسية ضدهم. وكان هؤلاء ينتمون إلى تيارات يساريّة مختلفة. فمنهم من كان ماركسيّا-لينيّنيّا. ومنهم من كان تروتسكيّا(نسبة إلى تروتسكي). ومنهم من كان بعثيّا، أو قوميّا ناصريا(نسبة الى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر). وبعد انهيار تجربة التعاضد الإشتراكية، واعتقال مهندسها أحمد بن صالح، أطلق سراح جميع المعتقلين السياسيين. غير أن عددا كبيرا منهم أعيد إلى السجون مرة أخرى بسبب الإنتفاضات الطلابية التي هزت البلاد في شتاء مطلع عام 1972. وقد أدّت تلك الإنتفاضات إلى غلق الجامعة، وإلى اعتقال مئات من الطلبة والمثقفين المنتمين بالخصوص الى التيّارات اليسارية، وإلى منظمة"العامل التونسي"، المتفرعة عن منظمة"آفاق". وعلى مدى النصف الأول من السبعينات، عاشت تونس على إيقاع مقاضاة هؤلاء، وصدور أحكام قاسية ضدهم. ولم يتمّ إطلاق سراحهم إلاّ مطلع الثمانينات، أي في تلك الفترة التي عرفت فيها تونس "ربيعا ديمقراطيّا" قصيرا أعقب عملية قفصة المسلحة التي دبّرها قوميّون ناصريّون بدعم من نظام معمر القذافي.

وقد اكتوى محمد الصالح فليس بنيران كلّ تجارب ومحن جيله، جيل الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وهو ينتمي الى عائلة متوسطة الحال من مدينة بنزرت. وكان فتى يافعا لمّا عاش أيّام الحرب القصيرة التي عرفتها هذه المدينة الواقعة على ضفة المتوسط، شمال البلاد، في صيف عام 1961. وقد اشتعلت تلك الحرب بسبب رفض فرنسا مغادرة قواعدها العسكرية في هذه المدينة. وخشية أن يَسْتغلّ ذلك خصومه من أنصار غريمه صالح بن يوسف الذي كان يحظى بمساندة مطلقة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وقادة الثورة الجزائرية، للإطاحة به بتهمة"الخيانة الوطنية"، قام نظام بورقيبة بحشد أعداد وفيرة من الشباب والكهول لمواجهة الجيش الفرنسي في بنزرت. وكانت المواجهة غير متكافئة بين مواطنين شبة عزل، وجيش فرنسيّ مدجّج بأحدث الأسلحة. لذا تساقط الضحايا بالمئات من الجانب التونسي. وعلى مدى أيام طويلة ظلت الجثث ملقاة في الشوارع تحت شمس الصيف الحارقة. وقد واكب الفتى محمد الصالح فليس تلك الحرب"اللعينة" من أولها الى آخرها. وأمام عينيه رأى الضحايا يتساقطون، ووقف على مظالم الجيش الفرنسيّ الذي حوّل تلك الحرب"عمليّة انتقاميّة". فكانت بمثابة "فاجعة جماعية"، و"محرقة رهيبة" بالنسبة لسكان بنزرت. ويعترف محمد الصالح فليس أنه بدأ يشعر برغبة حادة في التمرد على نظام بورقيبة جراء تلك المجزرة. وفي نهاية الستينات، انتسب الى الجامعة التونسية، وتَعَرّف على طلبة من مختلف التيارات اليسارية، بينهم ماركسيّون، وقوميون ناصريّون، وبعثيّون متعاطفون مع دمشق، أو مع بغداد. وبمرارة هو يروي أن الثقافة السياسية للبعض من قادة تلك التيارات، كانت شبه منعدمة، إن لم تكن منعدمة أصلا. لذا كانوا يقتصرون على رفع الشعارات الرنّانة، ولا يهتمّون بدراسة الواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي للبلاد. مع ذلك لم يتردد محمد الصالح فليس في الإنتساب إلى تلك التيّارات المناهضة لنظام بورقيبة. وسريّا كان يلتقي ب"رفاقه" لمناقشة العديد من المواضيع، وكتابة مناشير للتحريض على الثورة. وبعد الإنتفاضة التي شهدتها البلاد إثر هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967، كان محمة الصالح فليس من بين من شملهم الإعتقال.ولكي يتحمل ضيق الزنزانة، وفساد رائحتها، وكثرة فئرانها، وعذاب قمّلها، كان يحلو له أن يرفع صوته بالغناء، أو أن يردّد قصيدة للشاعر التركي الكبير ناظم حكمت الذي أمضى فترة مديدة من حياته في السجون:

الهواء ثقيل مثل الرصاص

وأصيح أصيح أصيح

أصيح

تعالوا سريعا

فأنا أدعوكم لإذابة الرصاص

أقول له:

فإذا لم أحترق

وإذا لم تحترق

وإذا لم نحترق

فكيف للظلمات

أن تصبح ضياء؟

وفي مطلع السبعينات من القرن الماضي، عاد محمد الصالح فليس الى السجن مرة أخرى ليعيش محنا رهيبة، على وقعها عاش جميع أفراد عائلته، خصوصا والده الذي كان يعمل عتّالا في ميناء بنزرت. 

وفي كتابه الذي يمثل وثيقة مهمة عن جيل السبعينات، ينتقد محمد الصالح فليس بحدة نظام بورقيبة الذي"أزاح القادة التاريخيين للحركة الوطنية، لتصبح الطريق سالكة أمام نظام رئاسوي بدون سلطة مضادة، ثمّ إلى حكم فرديّ انتهى الى رئاسة مدى الحياة". وبنفس الحدة ينتقد القسوة الشديدة، بل"الوحشية"، التي تعامل بها النظام المذكور مع أبناء جيله الذين لم يحملوا سلاحا في وجهه، بل كان نشاطهم يقتصر على كتابة مقالات تحريضيّة، وتحاليل للأوضاع القائمة. ويعنى ذلك أن هذا الجيل كان حالما ومثاليّا، ولم يكن يستحقّ أن يواجهه النظام الذي تربى في مدارسه وجامعاته التي درَسَ فيها أفكار الفلاسفة التنوريين الغربيين، بالعنف والشدة. ولم يقتصر محمد الصالح فليس على انتقاد بورقيبة ونظامه وحزبه، بل وجه أيضا انتقادات لاذعة ليسار تغلب عليه السطحيّة، وتتسم ثقافته السياسية بالفقر، وبالضبابية في الرؤية، وفي التفكير. ويختم محمد الصالح فليس كتابه قائلا:” وفيما يخصني، فقد حَزَمْتُ أمري على ملازمة الإصداع بما رأيته، وعشته، وشهدتّ عليه، عسى أن يساهم ذلك في إضفاء مزيد من الثراء والتنوّع على مسار وطني تحكمه رواية رسميّة خرافيّة، لأنها أحاديّة الجانب، وموغلة في التشخيص والشخصنة، ومن ثمة فهي خائنة للحقيقة".

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لا عمّر الدنيا
ولا عمر الاخرة -

جيل مفلس خسر الدنيا و خسر الاخرة