شهادة... بلون الدم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
دخل دار جدّته يعودها بعد غياب طويل... نظر إليها وقد رآها جالسة، متربّعة في عمق غرفتها، فبدت له الطريق من الباب إليها وكأنَّه سفر سنوات... ثمَّ بلمح البصر، تجسّدت أمامه على بُعد أمتار... لعلّه خداع البصر!
- كيف حالك يا جدّة؟
- بخير، بخير... لم يتغيّر حالي منذ زمن...
- كيف ذلك والعالم كله يدور ويتغير ويتبدّل ولا يستقر على حال؟!
- العالم يا ولدي، لا أنا... فأنا أدور وإذ بي أدور في نقطة اللا نهاية... أنطلق منها وأنا فيها فلا أبارحها لأعود إليها.
- كيف ذلك يا جدّة؟!
- العلم ليس عندي يا ولدي.
فجأة، لمع ضوء أحمر في عينيه، بُهِرَ به كأنه السنا...
التفت وكأنَّه لم يلتفت، إذ استغرق منه الالتفاف قرونًا... الشهادة... لا تزال معلّقة في إطارها القديم على الحائط، فوق الموقد... لكنّها حمراء... حمراء قانية... وكأنَّ من خطّها ورسمها يعودها كل يوم... بل كل دقيقة...
- ما سرُّ هذه الشهادة يا جدّة؟... أغيب دهرًا، وهي لا تزال على حالها... حمراء متجدّدة... لقد زرت بيوتًا كثيرة، وآلاف الحيطان والشواهد... كل الشهادات المعلّقة بيضاء، بعضها قد شابه اِصفرار بفعل عوامل الزمن... إلاَّ هذه الشهادة... حمراء حمراء بلون الدم...
- إنَّه حالُنا يا ولدي!... وكأننا في دوامة من تسديد دين لا ينتهي... لا يوفى...
- لمن تدينون؟ وبماذا؟!
- ندين لملاك الموت يا ولدي... لملاك موت لا يشبع من أنْ يقضم حيواتنا، ويفترس أيامنا، وينهشَ أعمارنا، ويشحذ أنيابه بما فينا من طفولة... فهو ملاك لا يقتات إلاَّ علينا، ولا يرتوي إلاّ بنا...
- ولكن يا جدّة...
وإذ بالجدة تتكئ إلى عصاها وكأنَّها تستريح من عناء السنين... وتصمت... تصمت صمت القبور، وعيناها إلى السماء شاخصة، وقلبها ينبض بقوة الرعد في ليالي الشتاء المدلهمّة...
- يا جدّة؟!... لمَ لا تجيبين؟!
لم تُجب الجدّة... لكنَّ كلماتها التي لم تنطق بها مرّت كشبح على الحائط حيث الشهادة...
ثمَّ تجسّد الشبح... انفصل بهيولته عن الحائط ليزعق ألمًا يشقُّ السماء...
وتجحظ عيناه وقد تعلّق نظره بالشبح يضمُّ ذراعيه إلى صدره يضرب عليه، ينزع قلبه ويقبض عليه بين أصابعه يريد أن يعصر منه العذاب فلا يقدر... فيحكم قبضته؛ ومع كل محاولة يرتفع زعيقه طالبًا الخلاص... الخلاص الذي يبدو مستحيلاً...
- يا جدّة؟ أرجوك أجيبي... لمَ أنت كتمثال رخام لا تجيبين؟ لمَ لا خلاصَ لشبح أرضك يا جدّة؟!
فجأة، احتضن الجدّة ضباب كثيف، لترجع بسرعة البرق إلى أعماق دارها، وتختفي... وكأنَّها المسيح الذي صُبَّ فوق قبره صخر... لكنْ، من دون قيامة...
وسطع ضوء أحمر، تمخّضت الشهادة، وسال منها الحبر أخاديد تحفر في الصُّلب: "منذ أنْ نطق التاريخ باِسم التدوين، والإمارات والسلطنات والخلافات، وهذه الأرض نُذرت لتكون هي الأضاحي التي تُقدّم على مذبح الساعات... كانت القرابين فداء حفظ الأرض... ومع كرّ الساعات، أضحت القرابين أضاحٍ للأيديولوجيا... دوامة، تصل الأرض بالفكر، تنحر الأعمار ولا سيادة...".
تمخَّضت الشهادة، تجدّد صباغها... وعادت الجدّة لترتاح كأهل الكهف، فقد انتهى وقت الزيارة، وزائرها لن يعودها قبل دهر...
"ستتناوبني الحيرة لقرون آتية... منتظرًا الجدّة... متلهّفًا لمفاتيح تقشع الغمام الأسود عن الجواب... وحتى ذلك الحين... سأسلّم أنَّ في الأمر...".
... صمت... فحيح...
- لعلّها لعنة...
"إنَّها لعنة أن تولد لبنانيًا: تعيش حياتك كلها وأنت تسأل عن معنى السلام والإنسان!".