كتَّاب إيلاف

هل نقترب من مرحلة توجيه العقول؟

امرأة تجر عربة تسوق داخل متجر في بلدة فيلنوف-لا-غارين الفرنسية
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في عالم تزداد فيه التطورات التكنولوجية بسرعة مذهلة، بدأ علماء النفس وعلماء البيانات يدرسون فكرة مثيرة وجدلية: التحكم بالوعي الجماعي. بفضل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان استهداف مجموعات كبيرة من الناس وتوجيه أفكارهم ومشاعرهم وسلوكياتهم بطرق لم نكن نتخيلها من قبل. لكن إلى أين يمكن أن يؤدي ذلك؟ وهل يمكن أن يصبح الوعي الجماعي أداة بيد أولئك الذين يتحكمون في التكنولوجيا؟

الفكرة التي كانت في الماضي ضمن أفلام الخيال العلمي أصبحت الآن في متناول العلم. يجري الباحثون تجارب على تأثير الترددات الصوتية والتلاعب بالصور والنصوص على سلوك الأفراد، ويعكفون على تطوير تقنيات دقيقة تستطيع إعادة برمجة العقول بشكل جماعي. أحد الأمثلة المدهشة هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، التي تملك تأثيراً ضخماً على تشكيل الرأي العام. بفضل الخوارزميات المتقدمة، يمكن تخصيص المحتوى لكل فرد بما يتناسب مع ميوله، مما يخلق بيئة افتراضية تجعل المستخدمين أكثر عرضة للتأثير والتلاعب النفسي.

السيناريوهات التي يمكن أن تنتج عن هذا التوجه مثيرة وصادمة. تخيل مثلاً حكومة أو شركة ضخمة تمتلك القدرة على توجيه أفكار ملايين الأشخاص في وقت واحد. قد يُستخدم هذا التحكم الجماعي لتحفيز الناس على سلوكيات معينة، مثل دعم قرارات سياسية، أو تغيير نمط حياتهم بطرق تصب في مصلحة من يسيطرون على هذه التقنيات. هذا ليس مستحيلاً؛ فقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن التعرض لمحتوى محدد باستمرار يمكن أن يؤدي إلى تغييرات ملحوظة في الرأي والسلوك، دون أن يدرك الأفراد أنهم يتعرضون لعملية توجيه ممنهج.

إقرأ أيضاً: أفريقيا: صراع حتمي على الموارد والمناخ والنفوذ

لكن، ماذا لو تم استخدام التحكم في الوعي الجماعي لتحقيق أهداف اقتصادية بحتة؟ يمكن للشركات العملاقة أن تستخدم هذه التقنيات لخلق طلب مصطنع على منتجاتها أو خدماتها، حتى ولو كانت غير ضرورية. على سبيل المثال، يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحديد الاحتياجات النفسية لكل مجموعة سكانية، ومن ثم توجيه رسائل تسويقية تؤدي إلى تغيير تفضيلاتهم الاستهلاكية. قد يبدو هذا الأمر غير ضار للوهلة الأولى، لكنه يفتح الباب أمام استغلال الرغبات والاحتياجات البشرية بطرق لم يسبق لها مثيل، مما يضع الأفراد في حالة استهلاك مستمر دون وعي حقيقي.

التحكم في الوعي الجماعي قد يمتد أيضاً إلى خلق توجهات فكرية واجتماعية. تخيل مستقبلاً تصبح فيه الآراء السياسية والاجتماعية ليست نابعة من قناعة داخلية، بل نتيجة توجيه خارجي. قد تستطيع الحكومات أو الكيانات المسيطرة إعادة تشكيل وعي المجتمع حول قضايا حساسة، مثل الهوية الوطنية، أو الحريات الشخصية، أو حتى المعتقدات الدينية. الخطر الأكبر هو أن تصبح المجتمعات تدريجياً أقل قدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، ويصبح الوعي الجماعي مجرد أداة تنفذ أهداف الآخرين، مما يقود إلى تآكل قدرة البشر على التفكير الحر والنقدي.

إقرأ أيضاً: زنجبار... أرض الأسرار والفرص

لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فبفضل التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، هناك سيناريو أكثر إثارة للقلق. ماذا لو تمكّنت أجهزة الكمبيوتر من تحليل البيانات السلوكية بشكل دقيق بحيث تستطيع التنبؤ بتصرفات الأفراد قبل أن يقوموا بها؟ قد يصبح بالإمكان منع الأفعال غير المرغوب فيها قبل حدوثها، مما قد يؤدي إلى نظام اجتماعي يتحكم فيه الذكاء الاصطناعي تماماً في مسار حياة الأفراد. يبدو هذا السيناريو وكأنه مأخوذ من فيلم، لكنه يمثل مسارًا محتملاً للتكنولوجيا في حال استمر تطويرها دون ضوابط أخلاقية.

علم التحكم في الوعي الجماعي يقدم إمكانيات هائلة، لكنه يحمل في طياته تهديداً جوهرياً للبشرية. قد يجد الناس أنفسهم في عالم تتراجع فيه الحرية الشخصية لصالح قوى مجهولة تتحكم في وعيهم وقراراتهم. في هذا العالم، يصبح التفكير المستقل مهدداً، ويتحول الوعي البشري من كونه حقاً أساسياً إلى أداة تُستخدم لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف