طريق التنمية... هل يمكن أن يكون عراقياً؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بتاريخ 22 نيسان (أبريل) 2023، تم توقيع مذكرة تفاهم رباعية بين العراق وتركيا وقطر والإمارات للتعاون في "مشروع طريق التنمية"، بحضور رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني. والمشروع بالطريقة المعلنة (مشاركة وتمويل أطراف عربية وأجنبية) لن يكون مجدياً للعراق، خاصة أنَّ ما يتم تداوله هو أن العراق لن يحصل إلا على ما يقارب ربع الواردات المتحققة من المشروع عند إكماله، كما أن المعلومات المتوفرة عن المشروع (يطلق عليه أحياناً اسم مشروع "القناة الجافة") يتضمن طريق نقل سككي وطريق نقل بري يبلغ طوله حوالى 1200 كم، يبدأ من ميناء الفاو جنوباً إلى الحدود التركية في منطقة فيشخابور، وتشير هذه المعلومات إلى أن المشروع سينفذ على ثلاث مراحل، تكتمل الأولى عام 2028، ثم المرحلة الثانية عام 2038، في حين ستكتمل المرحلة الثالثة عام 2050 عند اكتمال مشروع ميناء الفاو. لكن بطء تنفيذ المشروع وآلية تنفيذه ومشاركة أطراف أخرى في التمويل والتنفيذ يجعله غير ذي جدوى للعراق.
أمَّا كيف يمكن أن يكون المشروع عراقياً خالصاً، سواء بالتمويل أو التنفيذ، أو الإدارة، وبالتالي جني فوائده المتوخاة منه؟ هذا المقال هو للإجابة عن هذه التساؤلات.
في مشاريع مد طرق النقل وسكك الحديد، تمثل كلفة العمل (الأيدي العاملة، وأجور الآليات، والنقل) أكثر من 60 بالمئة من كلفة المشروع إن لم تزد على ذلك. والسؤال المهم هنا هو، هل يمكن توفير60 بالمئة من كلفة مشروع طريق التنمية، دون أي إضافة على الموازنة؟ الجواب بكل تأكيد نعم، وسأبين ذلك بالتفصيل.
في قانون الموازنة لسنة 2023 تمت إضافة عدد يساوي (810,863) موظفاً على ملاك موظفي الدولة في القطاع العام، علماً أن أغلب الوزارات والمؤسسات الرسمية العراقية تعاني ترهلاً وظيفياً كثيراً ما صرح به أكثر من وزير وأكثر من مسؤول في الحكومات السابقة، كما أنَّ إنتاجية الموظف العراقي قبل هذه الزيادة كانت 17 دقيقة باليوم، حسب تقديرات البنك الدولي ودراسات أكاديمية أخرى مستقلة، ما يعني أن إضافة هذا العدد لا مبرر له، وسيقلل إنتاجية الموظف إلى نسبة أدنى من 17 دقيقة باليوم، وسيكون عبئاً مضافاً على ميزانية الدولة، خاصة إذا عرفنا أنَّ معدل راتب كل موظف منهم يبلغ حوالى (700 ألف دينار) فيكون مجموع ما سيتقاضاه هؤلاء شهرياً أكثر من 567 مليار دينار. وإذا ضربنا هذا الرقم بعدد أشهر السنة، تكون الحصيلة ستة ترليونات وأكثر من 811 مليار دينار كل عام، وبما أن إضافة هذا العدد من الموظفين غير مبرر أصلاً، وغير منتج من كل النواحي، ما يعني إمكانية إستخدام هذا العدد من الموظفين خصيصاً لهذا المشروع، وبذلك لن نضيف أي أعباء إقتصادية على الموازنة، وكل ما فعلناه هوإدارة الأيدي العاملة والموارد المالية بطريقة أكثر إنتاجية. وليس هذا فقط، بل يمكن أن نستعين بعدد إضافيّ من كل وزارات الدولة التي تعاني ترهلاً وظيفياً، وإضافته إلى القوى العاملة في المشروع ما دمنا جادين في أن يكون المشروع عراقياً تمويلاً وتنفيذاً.
يمكن تقسيم القوى العاملة التي سيصل عددها أو يزيد على المليون، إلى ثلاث وجبات عمل متعاقبة في مواقع العمل ليستمر العمل فيها على مدار الساعة، ما يختزل مدة التنفيذ إلى ثلث المدة المحسوبة فيما لو تم تنفيذه بوجبة عمل واحدة.
في كتابي "التنمية المضاعفة... ثورة بلا عنف"، طرحت طريقة جديدة للتعاطي مع القوى العاملة والوقت، بما يختزل وقت تنفيذ كافة مشاريع الدولة إلى الثلث، خاصة مشاريع البنى التحتية التي نحتاج إلى تسريع وتيرة العمل فيها، وبينت كيف يمكن أن يسهم ذلك في تقليص ما أسميه "الفجوة التنموية" بيننا وبين دول العالم المتقدمة، لأن كل الدول تتقدم بوتيرة ثابتة، ولغرض اللحاق بها يجب التفكير بطريقة استثنائية تختزل الزمن وتستفيد إلى أقصى الحدود مما هو متوفر من قوى عاملة وموارد وإدارتها بطريقة منتجة، ومغادرة الطريقة التقليدية في إدارة الوقت والموارد والأيدي العاملة. لذلك، أحث القائمين على هذا المشروع على ترك الطريقة التقليدية في تنفيذ وتمويل هذا المشروع ليكون مشروعاً عراقياً خالصاً دون الحاجة إلى مساعدة الآخرين الذين سيقدمون "مساعدتهم" للاستحواذ على الموارد المتوقعة منه على حساب ما يمكن أن يجنيه العراق.
مروجو فكرة التمويل من بعض دول الجوار يستندون في ترويج فكرتهم على عدم قدرة العراق على تمويل المشروع، وقد بينت أعلاه، كيف يمكن الاستفادة من القوى العاملة المتوفرة حالياً في الوزارات، خاصة ما تمت إضافته من قوى عاملة غير مبررة في قانون موازنة 2023 ما يوفر تقريباً 60 بالمئة من كلفة المشروع، والسؤال الذي طرح من قبل عدد من الأصدقاء والمهتمين هو كيف يمكن تمويل ما تبقى من كلفة المشروع، خاصة ما يتعلق منها بمشتريات المواد الداخلة بالعمل؟
ثمة تخصيصات مالية لبعض الوزارات في أغلب قوانين الموازنات في السنوات السابقة "ليس لها ما يبررها"، وهو ألطف وصف يمكن أن أصف به تلك التخصيصات، وسأثبت للقراء كيف يمكن أن نمول عشرة مشاريع بحجم مشروع طريق التنمية بمجرد أن تكون لدينا إدارة جيدة ورشيدة للأموال بالإضافة إلى الأيدي العاملة والوقت، كما بينت أعلاه.
إقرأ أيضاً: وماذا بعد؟
وإذا دققنا في التخصيصات المالية والقوى العاملة لوزارة الكهرباء للسنوات من 2005 ولغاية 2023، نلاحظ أنَّ النفقات التشغيلية للوزارة للسنوات من 2005 ولغاية 2007 تتراوح بين 106 -112 مليار ألف دينار، والقوى العاملة في حدود 590 موظف، ويرتفع عدد القوى العاملة فجأة ليصل في عام 2008 إلى 11,719 موظفاً، لكن التخصيصات المالية التشغيلية التي من المفترض أن ترتفع لتغطي رواتب الزيادة بعدد الموظفين تبقى على حالها دون تغيير، ما يشير إلى وجود خلل في الموازنة التشغيلية لتلك السنة. لكنَّ الأغرب أن القوى العاملة ترتفع في سنة 2009 لتصل إلى 18,290 موظفاً، والغريب أنَّ تخصيصات النفقات التشغيلية ترتفع إلى 2,726,151,626 ألف دينار، أي ما يعادل 25 ضعف موازنة أي سنة من السنوات الخمس التي سبقتها، مع أن رواتب الموظفين، بالرغم من عددهم غير المنطقي في تلك السنة، يساوي 277,589,232 ألف دينار، أي أن الزيادة في تخصيصات تلك السنة في الموازنة التشغيلية بالرغم من التضخم غير المبرر لعدد الموظفين فيها تبلغ حوالى 2,5 ترليون دينار، والأشد غرابة أنَّ عدد القوى العاملة في قانون موازنة 2010 يتقلص فجأة ليصل إلى 648 بينما تزداد تخصيصات الموازنة التشغيلية عن السنة التي سبقتها لتصل إلى 2,806,892,157 ألف دينار، بالرغم من أنَّ عدد القوى العاملة يساوي تقريباً 1/28 من عددهم في السنة التي سبقتها، أي أن تخصيصات النفقات التشغيلية التي من المفترض أنها تتناسب مع عدد القوى العاملة لتغطي رواتبهم توضع بطريقة ليس لها علاقة بالعدد الفعلي للقوى العاملة، ما يعني وجوب وجود فائض في التخصيصات المالية للنفقات التشغيلية لهذه السنة يزيد على السنة التي سبقتها.
إقرأ أيضاً: إستخرابات
ونلاحظ أن التخصيصات للنفقات التشغيلية للسنوات بين 2011 و2016 تزداد بوتيرة معقولة، بالرغم من أنها أكثر كثيراً من الحاجة لتغطية رواتب الموظفين في تلك السنوات، لكن الأمر الغريب أن النفقات التشغيلية في سنة 2017 تزداد تقريباً إلى الضعف، بينما يقل عدد القوى العاملة تقريباً إلى النصف! وتبدأ النفقات التشغيلية بالإرتفاع سنوياً بمقدار 1 إلى 2 ترليون دينار، لتصل في سنة 2023 إلى 11,610,210,213 ألف دينار، مقابل عدد قوى عاملة يساوي 5390 موظفاً، ولو كان معدل راتب الموظفين خمسة ملايين دينار - وهو افتراض غير واقعي - فسيكون مجمل تخصيصات رواتب الموظفين لتلك السنة 26,950,000 ألف دينار شهرياً أي 323,400,000 ألف دينار سنوياً، ما يعني وجود زيادة في تخصيصات الموازنة التشغيلية عن تغطية الرواتب تزيد على أحد عشر ترليون دينار لسنة 2023 وحدها. ولو اعتبرنا أنَّ الحسابات أعلاه خاطئة، ولنركن إلى المنطق في المقارنة، فنقول إذا كانت تخصيصات السنوات من 2011 ولغاية سنة 2016 قد غطت كل بنود الصرف التي تتضمنها الموازنة التشغيلية على مدى تلك السنوات السبع، فما الحاجة إلى زيادتها في السنوات التالية لتصل إلى ما يزيد على خمسة أضعافها؟
المثال أعلاه عن وزارة واحدة فقط، والوزارات الأخرى تشبه إلى حد كبير ما يحدث في هذه الوزارة، وما يمكن أن توفره إدارة حكيمة من أموال لإنفاقها في مشاريع أخرى. وبمجرد أن تدار أموالنا بطريقة أكثر حرصاً على أن تذهب التخصيصات للأهم فالمهم، وليس على أساس إدارة الوزارات وكأنها مغانم لهذا الحزب أو ذاك، ما يوفر بالنتيجة أموالاً هائلة تغطي عشرة مشاريع بحجم مشروع طريق التنمية.