غزة.. الموت جوعاً وألماً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كانت النكبة التي ابتلي بها الشعب الفلسطيني عام 1948 نقطة النهاية لعقود من النشاط الاستعماري الصهيوني، مما أدى إلى إنشاء دولة ذات أقلية يهودية في فلسطين على حساب الأغلبية العربية. وقد تحقق ذلك من خلال العنف والإرهاب ودعم القوى الاستعمارية والإمبريالية الكبرى، وتخاذل دول عربية وتآمر دول أخرى. ومنذ الخمسينيات فصاعداً، أصبح قطاع غزة ـ بالرغم من إفقاره وعزلته ونقص الموارد ـ مكاناً لإعادة تشكيل التطلعات الوطنية الفلسطينية.
وهذا وضع قطاع غزة في صدام مع المشروع الإسرائيلي الصهيوني التوسعي للحصول على أقصى قدر من الأراضي الفلسطينية مع الحد الأدنى من السكان الفلسطينيين. ومنذ الخمسينيات، حددت إسرائيل استراتيجياتها لمعالجة قضية غزة عبر الغارات والتوغلات المتكررة، والاحتلال الدموي في عام 1956 الذي استمر لعدة أشهر حتى انتهى في عام 1957 تحت الضغط الدولي. ثم إعادة احتلال غزة في عام 1967 الذي وضع غزة تحت الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر لعقود من الزمن. وشكّل إعادة احتلال قطاع غزة في عام 1967 لحظة حاسمة في تعميق الألم الناجم عن نكبة عام 1948.
فقد قمعت إسرائيل التعبير عن الخطاب السياسي الفلسطيني، وقيدت الحياة الثقافية، وشرعت في مشروع استعماري داخل القطاع. فقامت بالاستيلاء على الأراضي وبناء المستوطنات والسماح للمستوطنين اليهود بالانتقال إلى القطاع، والاستيلاء على حوالى 25 بالمئة من أراضي غزة، و40 بالمئة من أراضيها الخصبة، ومعظم مواردها المائية الشحيحة. وبحلول عام 2005، كان 1.5 مليون فلسطيني يعيشون على 75 بالمئة من قطاع غزة؛ واحتل 8000 مستوطن يهودي النسبة المتبقية البالغة 25 بالمئة.
لقد جعلت المستوطنات في غزة الحياة غير محتملة، وخلقت بنى تحتية للانتهاكات والسيطرة، وقسمت القطاع إلى مناطق أصغر، منفصلة بنقاط التفتيش والجدران. وعندما كانت غزة تتمرد، سواء من خلال وسائل مسلحة أو غير مسلحة، كانت إسرائيل ترد دائماً بالعنف الشديد. بالنسبة إلى القادة وصناع السياسات الإسرائيليين، كان من المفترض أن يصبح واقع غزة كما خططت له إسرائيل منذ عام 1948 فصاعداً وضعاً راهناً أبدياً.
لكن إسرائيل تناست حقيقة أن غزة تؤوي أشخاصاً هم جزء من أمة، مع حقوق ومعضلات لم يتم حلها حول التحرير والاستقلال والحق في العيش بكرامة واستعادة الحقوق. قوبل كل تمرد في غزة بعنف شديد من قبل إسرائيل في أواخر الستينيات، والسبعينيات، وأواخر الثمانينيات (الفترة المعروفة بالانتفاضة الأولى)، وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. واستمرت قضية غزة التي لم تُحَل، والتي تشكل جزءاً من قضية فلسطينية أوسع نطاقاً. حيث تنوعت أساليب إسرائيل في التعامل مع غزة، فشملت العنف، والقيود المفروضة على حرية الحركة، والعزلة، والتفتيت، والحصار، واستراتيجية "قص العشب"، والاستعمار، والإغلاق، والتوغلات، وتدمير الحياة الاقتصادية، والاغتيالات، والقصف الجماعي، وقتل المدنيين وتدمير المؤسسات الحيوية.
لقد نجحت أساليب إسرائيل المتطورة ـ والسادية ـ في حصار غزة وقصفها، وفي نسج العنف بكل جانب من جوانب الحياة هناك لعقود من الزمان. وأصبح العنف عنصراً ثابتاً في حياة الناس اليومية، وفي مماتهم أيضاً.
إبادة جماعية صريحة
انتهكت الإبادة الجماعية في غزة كل معايير الإنسانية. فاستمرار الاحتلال لعقود، وممارساته الفاشية من القمع والقتل للشعب الفلسطيني لا يشكل إهانة للالتزام بالمعايير الدولية للتماسك القانوني والسياسي فحسب، بل إن مثل هذا العرض المسرحي للقتل والفوضى يقوض شيئاً أكثر وضوحاً في النسيج البشري في العالم. يقوض المنظومة الأخلاقية التي شكلتها البشرية على مدى قرون.
لم يُظهر أحد هذا الكم من التوحش والسلوك البدائي غبر التاريخ، كما يفعل الجيش الإسرائيلي في غزة حالياً. هذه ليست أزمة إنسانية. هذه إبادة جماعية. عندما يكون 70 بالمئة من السكان الذين قتلوا من النساء والأطفال؛ وعندما يُحرم السكان من الغذاء والماء والأدوية؛ وعندما يتم الهجوم المتكرر على جميع المستشفيات والعيادات ومواقع توزيع المساعدات ووكالات المساعدات الإنسانية التي تحاول المساعدة؛ وعندما يكون عدد عمال الإغاثة التابعين للأمم المتحدة في غزة أكبر من أي وقت مضى في تاريخ الأمم المتحدة؛ وعندما يتم شطب أكثر من تسعمئة عائلة - تمت إبادتها - من السجل المدني؛ وعندما نكون أمام أكثر من سبعة عشر ألف طفل فقدوا أحد الوالدين أو كليهما؛ وعندما يتم تهديم المخابز وقصف مواقع توزيع مساعدات، واستهداف الكنائس والمساجد والمدارس، سيكتب التاريخ أنَّ إسرائيل دمرت القانون الإنساني.
يقول الغزاويون الذين يعانون "صدمة العيش" بعد ما يقارب من خمسة عشر شهراً على بدء العدوان الصهيوني عليهم، أنهم يموتون عدة مرات. فإن لم يموتوا بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية التي تلقي فوق رؤوسهم آلاف الأطنان من المتفجرات، قد يموتون بسبب القصف المدفعي، أو بسبب رصاصة جندي صهيوني قناص يتمركز فوق أحد الأسطح. قد يموتون جوعاً بسبب انعدام المواد الغذائية الضرورية للعيش. وقد يموتون بسبب نقص الأدوية أو غياب الرعاية الطبية. قد يموتون برداً في شتاء قارص لا يرحم أطفال ولا عجائز بسبب غياب وسائل التدفئة. وقد يموتون من الحياة بسبب عدم توفرها أصلاً في قطاع غزة. ربما يموتون من الفقدان ـ لاستشهاد أفراد العائلة ـ وانعدام الأمل.
مدنيون داخل مبنى مهدم عقب غارة إسرائيلية وسط قطاع غزة
في غزة تتحول أسرة الأطفال إلى قبور بعد تدمير منازلهم بالغارات الجوية الإسرائيلية. ينام الغزاويون كل ليلة وهم غير متأكدين من استيقاظهم صباحاً أحياء، لذلك فإنَّ كل صباح هو حياة جديدة لهم. والأطفال الذين حرموا من مقاعد الدراسة لأن إسرائيل دمرت كافة المدارس وقتلت المعلمين، باتوا يحفظون أسماء الطائرات الحربية التي تلقي قنابل الموت فوقهم، وأسماء الأسلحة، وأسماء الدبابات، بدلاً من ترديد الأناشيد.
كبر الصغار فجأة، وأخذوا على عاتقهم إطعام ما بقي من أفراد أسرهم، بعد أن رحل معظم الراشدين إما شهداء، أو مجاهدين، أو معتقلين. في غزة لم يعد الأطفال يتعلمون الرسم، والتلوين، وركوب الدراجات. الأطفال الغزاويون لم يعودوا يتعلمون العيش، إنهم يتعلمون البقاء على قيد الحياة. ويتعلمون القدرة المتكررة على القيام بذلك.
نعم الموت والدمار ليسا خاصين بالحرب في غزة، ولكن حجمها ونطاقها هما خاصان بها، وكذلك شدتها ووحشيتها.
إنَّ القصف المستمر هو بمثابة خنجر مغروس مراراً وتكراراً في الجرح المفتوح لنفسيات الناس المحطمة. والموسيقى التصويرية لكل ليل ونهار هي طنين الطائرات بدون طيار التي لا هوادة فيها، والتي تسخر من الغزيين: أوه، هل تعتقد أنك نجوت؟ انتظر فقط، لا يزال الموت قادماً.
تظهر إحدى الأمهات الغزاويات الشابات مثقلة بالتعب، وهي تجلس ورأسها بين يديها تتمتم ــ سواء لنفسها أو لابنها: لا بأس، لقد انتهى الأمر تقريباً. ولكن الأمر ليس كذلك. فهي لن تأخذه إلى المنزل ــ فلم يعد منزلهما موجوداً، والبديل خيمة مليئة بالذباب. ولن تتمكن من إطعامه الآيس كريم كما كانت تفعل قبل الحرب. فالمجاعة باتت تشكل تهديداً مستمراً. حيث تتكون الحصص الغذائية المحدودة من الفاصوليا المعلبة والعدس، ولهذا فهي ممتنة للغاية. ولكن ما لا تستطيع أن تقوله له هو: كل شيء أفضل. أنت آمن الآن. إن هذه الكذبة واضحة للغاية، حتى أن أصغر الأطفال يعرفون أنه من الأفضل ألا يصدقوها.
إنَّ الصدمات في غزة تتفاقم كل يوم، ولا توجد فترة راحة، حتى ولو كانت قصيرة. كل مقومات الحياة باتت معدومة، باستثناء الموت المتاح على مدار الساعة.
يمكن للمارين أن يشتموا رائحة الموت من خلال فتحات الخيمة. إنها تنبعث من بقايا أولئك الذين قتلوا قبل أسبوع والذين تم انتشالهم للتو، وتم نقلهم إلى عيادة ميدانية لوضعهم في أكياس وتنظيم فهرس لهم. أصغر جثة هي لطفل صغير بحجم ذراع تقريباً. تتكون البقايا الأخرى من أجزاء الجسم فقط. يمكن للناظرين أن يلمحوا قدماً أو نصف ساق. يمكن رؤية رجل في زاوية الخيمة وحيداً، راكعاً يبكي بهدوء ما تبقى من أقاربه.
مسعفون بالقرب من مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا بشمال قطاع غزة
هذه هي الصور اليومية المروعة للخسارة والمعاناة التي يتحملها الغزاويون كل يوم. حتى أولئك الذين يظلون سالمين جسدياً غالباً ما يكونون محطمين نفسياً. يصف الآباء ومقدمو الرعاية في غزة بأن الأطفال خائفون وقلقون وغاضبون ويعانون من الاضطرابات النفسية والاجتماعية. إنهم عرضة للتبول اللاإرادي، أو يصبحون في بعض الأحيان شديدي اليقظة والهستيريا.
ربما يتمكن الناجون من هذه المحارق في غزة من إعادة بناء البيوت والمدارس والمشافي، ولكن لا أحد يستطيع أن يشفي تماماً نفسية سكان غزة الهشة والمتضررة. لا يمكن للعمليات الجراحية والضمادات أن تساعد سكان غزة على التعافي من الخسارة العاطفية، أو من صدمات القتل والقصف. إن تم التعافي فهدا لا يعني النسيان. بل يعني أن الندوب النفسية تبقى تحت السيطرة حتى لا تكون في المستقبل مشلولة أو مثبطة أو منهكة.
تشرق وجوه الأطفال الغزاويين قليلاً في اللحظة التي يصل فيها أحد فرق الدعم. ويساعد ذلك الآباء أيضاً على نحو بسيط، حيث يرون صغارهم يبتسمون ويضحكون. ويغنون أغنيات بصوت مرتفع بما يكفي لإغراق الطائرات بدون طيار والانفجارات في المسافة. وبينما يرقصون ويلعبون ويتسابقون مع بعضهم البعض، تلاحظ فتاة صغيرة تجلس على كرسي بلاستيكي وردي مع دمية ترتدي فستاناً أخضر لامعاً. إنها تراقب الآخرين، ولكن الأمر يبدو وكأنها ليست هناك. لقد رأينا ذلك من قبل مرات عديدة، لدى البالغين والأطفال، جسدياً يكونون هناك &- ولكنهم غائبون عاطفياً تماماً. مثل حكاية الطفل أحمد البالغ من العمر أربع سنوات. أحمد المصاب برأسه هو العضو الوحيد الناجي من عائلته. كان أحمد وأخته ووالديه يفرون نحو ملجأ عندما قُصف مبنى قريب. اعتقد الجميع أنه مات أيضاً، ولكن وجدوه بعد عشرة أيام في المستشفى ورأسه مهشماً.
مثل الأطفال الذين أوكلت إليهم مهمة حمايتهم، لا يستطيع الكبار معالجة الألم والخوف والقلق الذي يسحق نفسياتهم، ويهدد بدفعهم إلى حافة الجنون. لا أحد يستطيع أن يفهم ما تحمله أهل غزة لأكثر من خمسة عشر شهراً. إنه في وجوه الناس ــ وخاصة في عيونهم الميتة ــ وفي حركاتهم الميكانيكية الخاملة عندما ترى كيف أن الأشهر الماضية قد اجتاحت أرواح الجميع.
يقول أحد الغزاويين المسعفين إنه يقود السيارة عبر بحر من الزومبي، هكذا يفكر في نفسه بشكل مريض بينما تحاول السيارة التي يستقلها شق طريقها عبر الخيام والأكشاك وعربات الحمير وحركة المرور البشرية في جنوب غزة. ولكن في نفس الوقت، يشعر بموجات من الألم تنبعث من كل شخص، قوية للغاية، ومؤلمة للغاية لدرجة أنه تشعر وكأنه يغرق في بحر لا نهاية له.
دمرت إسرائيل بصورة منهجية كل المرافق الحيوية في قطاع غزة، وأولها مطارها الدولي
تقول امرأة غزاوية: ابني عمره سبع سنوات. كل ليلة يصرخ ويتشنج. لقد كان يفعل هذا لمدة شهرين. منذ أن رأى رأس أخته الصغرى يطير عندما سقطت القنبلة الإسرائيلية قربها.
تقول إنها تشعر وكأن عقلها يتجمد. ليس فقط بسبب الرعب الذي تصفه، ولكن أيضاً بسبب صوت ابنها عندما يصف مقتل أخته. كانت هناك أيضاً؛ لقد رأت كل شيء. لقد يفاجئكم مدى عمق دفنها لمشاعرها الخاصة، ومدى اضطرارها إلى القتال كل يوم للتأكد من عدم ظهورها على السطح. إذا ظهرت، إذا انكسرت، فسوف تنكسر تماماً. تضيف بنبرة صوت حزينة: لدي أطفال ما زالوا على قيد الحياة.. إنهم بحاجة إلي!
لا يوجد شيء ما يمكن أن يجعل المرء يدرك عمق واتساع الدمار النفسي الذي تحمله أهل غزة. وإذا كان من المقرر إعادة بناء غزة، فلابد من التعافي من الصدمات.
في أحد أحياء شمال غزة، وبينما كان باب الحافلة على وشك الإغلاق، قفز شاب إلى الحافلة وأمسك بيدي والدته، فقبلهما. كانت هي وأخته تغادران باتجاه جنوب القطاع، أما هو فسيبقى. وبدأ الجالسون حولها في البكاء بهدوء بينما اجتاحهم حزن عميق. قالت الأم العجوز المنهكة للشاب: ابق على قيد الحياة يا بني.
أكثر ما يؤلم الغزاويين ـ والفلسطينيين عموماً ـ هو بينما هم على قيد الحياة، يتعين عليهم أن يناضلوا ويكافحوا ليثبتوا للناس أنهم بشر، وأنهم موجودون، وعلى العالم الاعتراف بهم حين يُقتلون. فالغزاويون يقاومون حتى الموت، وينزفون حتى الموت، ويتجمدون حتى الموت، ويعيشون حتى الموت.