كتَّاب إيلاف

الغربة وشغف الكتابة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ما الجديد الذي أضافته عليّ الغربة طوال السنوات العشر الأخيرة في مجال الثقافة والأدب، بالرغم من البعد عن الأهل والهجرة إلى حيث الاستقرار أخيراً في النمسا بعد أن كنتُ قد تنقلت في عدد من الدول قبل أن أحط رحالي في النمسا، البلد الذي احتضنني بحب كبير، وتجاوزت مع كل من هاجر ووصل إلى أرض هذه البلاد الخيّرة كل مشاعر الحب والوفاء والاهتمام، وقدموا على طبق من ذهب الكثير من الاحتياجات والخدمات، فضلاً عن الأمن وراحة البال، وتحفيز غير مسبوق لم أجد له مثيلاً طوال السنوات الماضية التي كنتُ تنقلت فيها إلى كثير من دول العالم، ومنها، وأهمّها، الولايات المتحدة الأميركية التي جئتها متحدياً كل الظروف في صيف عام 1999، بعد أن ابتسم لي الحظ بالحصول على تأشيرتها في المرة الأولى، وأعقبها عدد من التأشيرات… وشكّلت زياراتي إلى الولايات المتحدة الخمسين صورة ولا أجمل لواقع حياة جديدة، وبرنامج عمل متجدد.. حيث أخذني السفر في هذه الولايات إلى أبعد من ذلك. تلك الزيارات المتعددة إلى أغلب الولايات كان لها نقلة نوعية في حياتي، وسبق أن أشرت إليها في مقالات كثيرة نشرتها في دوريات عربية مختلفة.

الصورة التي أحاول رسمها، وهي ماذا أضافت لي رحلاتي المتعددة إلى ما تعلمته في المدرسة، في العمل الوظيفي، وفي الحياة، وفي الرقة المدينة السورية التي ولدت وعشت فيها ردحاً من الزمن، وغادرتها في عزّ الشباب طلباً للعمل أولاً والتكسّب، وإن كان بسيطاً، ولم يكن هو الهدف. فالهدف من كل رحلاتي إلى الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الأوروبية والعربية، هو البحث عمّا يختلج في ذاتي من أفكار ورؤى جديدة، كنتُ تعلمتها ومارستها، وتعرّفت إلى وجوه وأماكن ومدن جديدة. أناس من شرائح المجتمع المختلفة ومشارب متعددة، أضف إلى ذلك كثيراً من المواقف المرعبة والغريبة، والتعرّف على بلاد جديدة تختلف كثيراً عن المدينة التي ولدت وعشتُ فيها، كما أنها تختلف عن طبيعة البلد الذي أحمل جنسيته.

في بلاد الغربة، وفي الولايات المتحدة، على وجه التحقيق، مارست نشاطي وشغفي في القراءة وانكبابي على الكتابة بصورة يومية دون انقطاع، وهي عادة كنتُ أداوم عليها مع بداية تعلقي بالصحافة وحبّي الشديد لها وأنا في سنّ الثالثة عشرة. كنتُ طالباً في الصف السابع الإعدادي، حيث كنت مهتماً في قراءة واقتناء الصحف المحلية والمجلات، وأداوم على شرائها، وفي أحيان كثيرة، وفي فصل الشتاء كنت أنتظر وصول حافلة البولمان، الكرنك الحكومي، القادم من دمشق إلى الرقة، حيث أقيم، إلى وقت متأخر من الليل لجهة شراء الصحف المحلية وغيرها التي كنت أتابعها وبحبٍ كبير، مثال: مجلة العربي الكويتية، والدوحة والصقر الرياضية القطريتين اللتين كنت أعشقهما، فضلاً عن صحف محلية وعربية كالحياة، الشرق الأوسط، السفير، الجزيرة. هذا التناغم، وهذا العشق الأبدي لصاحبة الجلالة خلق لدي متابعة يومية، وحب غير مسبوق تطور مع الوقت، ولا يمكن أن يفوتني يوماً أي نسخة صادرة عن الصحف اليومية، أضف إلى الصحف الرياضية الأسبوعية، كالموقف الرياضي، الاتحاد، الرياضة، الأسبوع الرياضي، وهاتين الأخيرتين صحيفتان خاصتان، أضف إلى ما تجلبه سيارة المؤسسة العربية السورية لتوزيع المطبوعات من صحف ومجلات.

هذا هو ديدني اليومي، إضافة إلى ممارستي للعبة كرة القدم، والالتزام بدروسي المدرسية، والدعم غير العادي الذي كنت ألاقيه من قبل والدي، وهذا أولاً، وطموحه بأن أكون متفوقاً في دراستي لجهة الالتحاق بكلية الطب مستقبلاً، إلّا أنَّ رغبتي كانت تتمحور حول عاملين أساسيين: عشق الصحافة إلى حد النخاع، والسفر إلى دول الخليج للعمل في هذا المجال قبل حصولي على الثانوية العامة. هذا ما كنت أفكر فيه نتيجة الرغبة الجامحة غير العادية التي كانت تدفعني إلى هذه الهواية التي كانت تشغل مساحة كبيرة من تفكيري. وبعد أن أنهيت الخدمة الإلزامية، والدراسة الجامعية، وانشغالي بالعمل الوظيفي في الدوائر الحكومية، فكرت جدياً في الحصول على تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدة والالتحاق ببلاد العم سام الحلم، بعد أن أنهيت تحصيلي الدراسي وقضاء مشوار من العمر في العمل الوظيفي، وبدأت البحث عن حياة جديدة بعيداً عن الحياة المترهلة التي كنت أقضيها!

إقرأ أيضاً: حقوق مشروعة

بعد حصولي على أوّل تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدة، في سنّ مبكرة، سافرت إلى عدد من الولايات، واستقريت آخرها في ولاية لويزيانا. وكنت أحاول في كل يوم كتابة رأي، أو مقال أو خاطرة، وما شابه لغاية إرضاء رغبتي. أمضيت فترة طويلة في هذا الإطار ما أكسبني تلك الرغبة المرونة في تناول ما أبحث عنه، وبعد قضاء فترة هناك عدت إلى مسقط رأسي، وبعد مراسلات تمكنت من الحصول على عقد عمل في صحيفة "الشرق" القطرية في عام 2008، وعملت لفترة في قسم التحقيقات، وتعرفت هناك على كثير من الوجوه والأشخاص الذين تركوا أثراً كبيراً في حياتي، وتعلمت منهم ماذا تعني الصحافة؟ عشقي الدائم، ومن بين تلك الوجوه التي تشرفت باللقاء بها مؤخراً الزميل المتواضع سعد محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة الصقر القطرية الذي استقبلني في مجلسه بكل حفاوة وتقدير، كما التقيت بالزميلين الصحفيين المخضرمين من محرري مجلة الصقر، ومن أبرز القائمين عليها في حينها: مجدي زهران، وفايز عبد الهادي، بالإضافة إلى زميل ثالث كنت عملت إلى جانبه في صحيفة "الشرق" القطرية، وكان يعمل هو في القسم الرياضي بينما كان من نصيبي العمل في قسم التحقيقات، فضلاً عن نخبة من رؤساء تحرير الصحف القطرية، الأستاذ جابر الحرمي رئيس تحرير صحيفة "الشرق"، وعبد الله المهندي رئيس تحرير صحيفة "الراية"، وعبد الله طالب المري رئيس تحرير صحيفة "العرب". وقبل ذلك اللقاء الذي جمعني وإياهم بفترة من الزمن، كنت تحدثت في اتصال هاتفي مع الناقد المصري الكاتب المبدع، طيّب الله ثراه، رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة "الدوحة" في عصرها الذهبي، وكنت أرسلت له مادتين ونشرتا في المجلة، واحدة بعنوان: "الرَّقة مدينة الرشيد التي تغنّى بها الشعراء"، والثانية بعنوان: "رُصافة هشام كنز أثري تحت الرمال".

إقرأ أيضاً: عن قهر اللاجئين ومعاناتهم وتذمرهم!

وكي لا نبتعد كثيراً، فقد نشر لي في السنوات الخمس الماضية عدد كبير من المقالات في صحف خليجية وعربية تصدر في لندن، إضافة إلى مشاركات غنية في صحف ومواقع إلكترونية ومجلات أخرى كالعربي الكويتية التي نشرت فيها استطلاعاً مصوراً عن النمسا بعنوان: "فيينا الدانوب الأزرق وأحلام المفكرين". ويمكن بإيجاز أن أقف عند تجربة الغربة ودورها في حياتي الغنية، والتي لا يمكن أن نخفي تأثيرها على كتاباتي الكثيرة والمتنوعة التي تعلقت بها، وجسدت كثيراً من معاناتي ومشاهداتي ورؤيتي في كثير من المقالات، والتحقيقات الصحفية، والريبورتاجات والاستطلاعات عن مدن، والوقوف على كثير من الوجوه الثقافية والأدبية والاجتماعية والرياضية التي سبق لها أن رأت النور في كثير من المجلات والصحف الورقية والإلكترونية. هذا الهاجس لا يمكن أن نغفله أو نتركه على الرفّ. الغربة في الواقع أضافت إلى شخصيتي كصحفي أولاً الكثير من الأماني، والإدراك الحسي واللباقة، فضلاً عن الصدق في ما يطرحه ويرسمه ويتبناه، والآفاق التي يصورها بحبّ وشوق كبير.

إقرأ أيضاً: إلى صديقي الغائب

بقي أن أقول إنَّ الحياة فيها الكثير من الغثّ، كما فيها الكثير من السمين.. بمعنى أنّه لا يمكن للهواية والطموح أن يقفا عند حد معين في حال توافرت الموهبة والرغبة والإخلاص للعمل. الرغبة بعيداً عن المادة والتفكير فيها قبل النجاح، والتي لا يمكن أن يتحقق في ظلها الطموح، وفي حال رغب الإنسان في البحث عن النجاح والمجد والتميّز فعليه دفع الغالي والنفيس في سبيل تجسيد الحلم في حال أراد الوصول إلى الهدف مهما كان مستحيلاً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف