فضاء الرأي

الهجرة بوصفها فعلًا اجتماعيًّا معقّدًا:

بين الاستبداد السياسي وضغوط البُنى الثقافية

تحولت الهجرة في كثير من الحالات إلى هروب وجودي من بنى اجتماعية خانقة
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تُعَدّ الهجرة اليوم ظاهرة متعددة الأبعاد، تتجاوز مفهوم الفرار من الاستبداد السياسي أو القمع السلطوي الذي شكّل، تاريخيًّا، المحرك الأبرز لنزوح الأفراد والجماعات؛ فإذا كان الناس في الماضي يتجهون نحو المنافي بحثًا عن الأمان من بطش السلطة، فإنّ كثيرًا منهم باتوا، في الزمن الحاضر، يفرّون من مجتمعاتهم ذاتها، من أعرافها القاسية، وبُناها التقليدية الضاغطة، ومن شبكات الرقابة الاجتماعية التي تحاصر الفرد أكثر مما تؤمّن له الاستقرار والانتماء.

لقد تبدّلت الأسباب وتنوّعت الدوافع؛ فلم يعد الظلم السياسي وحده هو الذي يُجبر الإنسان على خلع جذوره ومغادرة أرضه؛ فحتى لو سقط نظام جائر أو انحسر تسلّط حاكم مستبد، يبقى سؤال أكثر تعقيدًا مطروحًا بقوة: كيف يمكن للفرد أن يتحرر من الاستبداد المجتمعي، من الرقابة الجمعية ومن الأعراف التي تضيّق عليه خياراته وحدود ذاته؟

إذ تختصر معظم قصص اللجوء والهجرة اليوم مأساة الظلم المجتمعي؛ فسقوط النظام السياسي قد يكون ممكنًا، لكن كيف الخلاص من استبداد المجتمع؟ من ذلك الاستبداد الخفي الذي يتسلل إلى مسام الحياة اليومية، فيقيد الفرد بقوانين غير مكتوبة وأعراف متحجرة ورقابة جماعية لا ترحم؛ ففي العديد من البيئات المأزومة والمتكلّسة، يُثقل الإنسان بأحمال نفسية واجتماعية تُنهك قدرته على الاستمرار؛ فالمجتمعات التي تتفشّى فيها السلوكيات السلبية من فضول مُفرط في حياة الآخرين، وتطفّل، وتنمّر، واغتياب، وتشهير، ومحاكمات أخلاقية مستمرة، تصبح بيئات طاردة، لا يجد فيها الفرد مساحة للخصوصية ولا ملاذًا لحرّيته الداخلية؛ ومع تفاقم هذه الضغوط، يصبح الهروب خيارًا ملحًّا ليس فقط لتحسين شروط العيش، بل للحفاظ على التوازن النفسي وصون الكرامة الإنسانية.

نعم، لم تعد الهجرة في العصر الحديث مجرد انتقال من مكان إلى آخر بحثًا عن الرزق أو هربًا من القيود السياسية، بل تحولت في كثير من الحالات إلى هروب وجودي من بنى اجتماعية خانقة؛ لقد شهدت دوافع الهجرة تحولًا جوهريًا؛ فبينما كان الناس في الماضي يفرون من جور السلطة الغاشمة وقمع الأنظمة الحاكمة، أصبح الفرد اليوم يفر من مجتمعه نفسه، من ذلك الكيان الذي يفترض أن يكون ملاذًا وأمانًا.

من منظور سوسيولوجي، تُظهر هذه الظاهرة ضعف العقد الاجتماعي وتآكل الثقة بين أفراد المجتمع؛ فحين تتحوّل الجماعة إلى عامل تهديد بدلًا من كونها مصدر حماية، يفقد الفرد شعوره بالانتماء، ويصبح الوطن نفسه فضاءً محاصرًا بأنماط سلوك متوتّرة ومختلّة؛ وهنا تتقاطع التحليلات النفسية مع السوسيولوجية؛ إذ يصبح الاغتراب الداخلي، ذلك الشعور العميق بعدم الانسجام مع المحيط، أحد أهم دوافع الهجرة.

لقد بات الفرد ينوء تحت عبء ثقيل في بعض المجتمعات المريضة والمتكلسة، التي تفتقر إلى التعددية والحرية والمرونة والتسامح وروح الاختلاف؛ فلم يعد الهروب من الظلم السياسي هو المحرك الوحيد كما أسلفنا، بل صار الدافع هو البحث عن مساحة للذات وسط زحام التقاليد البالية والعادات العتيقة والعلاقات المسمومة؛ إنه هروب من الفضول الذي لا يحترم الخصوصية، ومن التطفل الذي يخترق حرمة الحياة الفردية؛ كما هو هروب من آفات اجتماعية متجذرة كالغيبة والنميمة والتسقيط والتنمر، والتي تشكل في مجموعها بيئة موبوءة تشوه السمعة وتدمر الثقة وتقضي على أي أمل في حياة كريمة.

في هذه المجتمعات، حيث تنتشر الأمراض النفسية والعقد الاجتماعية، ويتكاثر الشاذون سلوكيًا والمجرمون فكريًا، يصبح الهروب ليس مجرد خيار، بل ضرورة حيوية للبقاء النفسي والمعنوي؛ فلا حياة ممكنة مع طغيان الجهل والتخلف، ولا استقرار مع سوء الخلق والفساد الأخلاقي، ولا أمان مع انعدام النظام وغياب سيادة القانون؛ ومن هنا، يختار الكثيرون الهجرة هربًا من ظواهر العشائرية المقيتة، والمحسوبية التي تقضي على مبدأ الجدارة، والتعصب الديني أو العرقي الذي يلغى الآخر، وثقافة الخيانة والفساد التي تستشري في النسيج الاجتماعي. إنهم يبحثون عن واحة تحقق لهم الحد الأدنى من الحرية والخصوصية، وتبعث فيهم الأمل، وتوفر لهم شيئًا من الراحة النفسية التي حُرموا منها في أوطانهم.

ولهذا تتسع موجة الهجرة من بيئات تكثر فيها المحسوبيّة والفساد، وتتعزز فيها الانقسامات الطائفية والعشائرية، وتُستغل فيها الروابط الاجتماعية كأدوات قمع بدل أن تكون أدوات تماسك؛ هناك يهرب الناس بحثًا عن فضاء يتيح لهم قدرًا من الحرية والخصوصية والاحترام، علّهم يجدون في مجتمعات أخرى حاضنة أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على احتواء اختلافاتهم وتطلّعاتهم.

ومن زاوية أنثروبولوجية، تكشف هذه الهجرة عن صراع بين الفردانيّة الحديثة التي تبحث عن حرية الذات، وبين البُنى التقليدية التي تستمرّ في فرض قيودها عبر العائلة والعشيرة والدين والعُرف؛ إذ إنّ الكثير من الأشخاص لا يهاجرون فقط بحثًا عن العمل أو الأمن، بل هربًا من منظومات القيم التي تحيط بهم وتكاد تُصادر إرادتهم وتشلّ حركتهم وتحدّ من خياراتهم في الحياة.

نعم، هذه الهجرة الجديدة هي، في جوهرها، رحلة بحث عن الذات في عالم يختنق فيه الفرد بثقل الجماعة؛ إنها صرخة احتجاج على مجتمعات أفقدت الفرد هويته، وحولته إلى رقم في معادلة القطيع؛ وهي تشير إلى أزمة عميقة في العقد الاجتماعي، حيث لم يعد البيت يمثل الأمان، بل أصبح هو مصدر التهديد نفسه؛ وهكذا، تصبح الهجرة فعلًا وجوديًّا قبل أن تكون خطوة اقتصادية أو سياسية؛ إنها سعي نحو حياة يمكن للإنسان فيها أن يكون ذاته، دون خوف أو وصمة أو محاكمة دائمة؛ إنه بحث عن وطن جديد لا تقتله فيه نظرات الآخرين، ولا تطارده شائعاتهم، ولا تُقمع فيه فرديّته باسم الجماعة؛ إنها محاولة لاستعادة الكرامة التي أرهقتها الأجواء المريضة، والبحث عن أمل يعيد للإنسان ثقته بذاته وبالعالم من حوله.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف