فضاء الرأي

لماذا يتمسّك نظام طهران بالمشروع النووي؟

المرشد الأعلى علي خامنئي
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لم يعد قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) مجرّد وثيقة تقنية حول التعاون والتفتيش، بل تحوّل إلى حكم سياسي واضح على طبيعة النظام الحاكم في طهران. فحتى بعد استهداف مواقع نووية حساسة، وبالرغم من التحذيرات من مخاطر التصعيد، ما زالت إيران ترفض فتح أبواب منشآتها أمام المفتشين أو تقديم توضيحات حول مصير مخزونها من اليورانيوم المخصّب. الرسالة هنا لا تقبل التأويل: النظام لا يرى المشروع النووي خيارًا تفاوضيًا قابلًا للمساومة، بل يعتبره خط حياة لبقائه.

لفهم هذا التعنّت، لا بد من النظر إلى العقيدة الاستراتيجية التي يقوم عليها نظام ولاية الفقيه. فمنذ أكثر من أربعة عقود، بنى النظام بقاءه على ثلاثة أعمدة متلازمة: القمع الدموي في الداخل، وتصدير الأزمات والحروب عبر الميليشيات في الإقليم، والسعي الحثيث لامتلاك السلاح النووي. هذه ليست سياسات منفصلة، بل منظومة متكاملة؛ فزعزعة أحدها تهدد البناء بأكمله.

لذلك، يبدو خامنئي مستعدًا لدفع أي ثمن تقريبًا للحفاظ على هذه الأعمدة، حتى وإن شمل ذلك عقوبات خانقة، وعزلاً دوليًا، وضربات عسكرية محدودة لمرافقه النووية. ففي حساباته، التراجع الحقيقي والمسؤول أمام المجتمع الدولي يعني انتحار النظام، كما عبّر عن ذلك بصيغ مختلفة حين قال إنهم لن ينتحروا خوفًا من الموت. وعمليًا، يعني هذا أن طهران تقبل تصعيد الضغوط، لكنها ترفض الشفافية أو التخلي الفعلي عن قدرتها على تصنيع القنبلة.

والملف النووي يفضح هذه المعادلة بوضوح صارخ. فإيران راكمت يورانيومًا مخصّبًا بنسب قريبة من مستويات الاستخدام العسكري، وهو أمر يتجاوز أي حاجة مدنية معقولة. كما قامت بإقصاء الكاميرات الرقابية، وتقليص التعاون، والآن تمنع حتى الوصول إلى مواقع تعرّضت للقصف. ولو كان البرنامج سلميًا فعلًا، لكانت الشفافية الكاملة هي الطريق الأسهل لنزع الشكوك. لكن طهران تتعامل مع المفتشين كخصوم، ومع قرارات الوكالة كتهديد لبقاء النظام، ومع أي دعوة للتوضيح كعمل عدائي.

في المقابل، يتحمّل الشعب الإيراني ثمن هذا النهج. فاقتصاد منهك أصلًا بالفساد والعقوبات وسوء الإدارة، يزداد خنقًا بسبب سباق التسلّح النووي. المليارات التي كان يمكن أن تُصرف على فرص العمل والصحة والمياه والبنية التحتية، تُهدر على أجهزة الطرد المركزي، والصواريخ الباليستية، وتمويل الحروب بالوكالة. وهكذا يتحوّل الاقتصاد إلى رهينة لمشروع القنبلة تحت شعارات الردع والعمق الاستراتيجي، فيما يُدفع المواطن الإيراني أكثر فأكثر نحو الفقر واليأس.

أمام هذا الواقع، يجد المجتمع الدولي نفسه أمام معادلة قاسية: نظام ربط بقاءه بالقمع والحرب والابتزاز النووي لن يتخلى طوعًا عن أي منها. وكلما اقتصر الرد على قرارات دورية وبيانات إدانة ومحاولات صفقة شاملة جديدة، سيواصل النظام شراء الوقت، وامتصاص الضغوط، والاقتراب خطوة إضافية من العتبة النووية.

في الوقت ذاته، أثبتت التجارب أن الحل ليس في غزو خارجي أو حرب شاملة جديدة. فالضربات العسكرية قد تدمّر منشآت، لكنها لا تغيّر طبيعة النظام ولا عقيدته، ولا تُسقط منظومته الأمنية والسياسية. القنابل قد تصيب الخرسانة، لكنها لا تُسقط الاستبداد ولا تبني بديلًا ديمقراطيًا.

الحل الوحيد القابل للاستدامة يبقى في تغيير ديمقراطي حقيقي من داخل إيران، تقوده إرادة الشعب وقواه المنظمة. فقد شهدت البلاد انتفاضات متتالية واسعة خلال السنوات الأخيرة، برهنت على عمق السخط الشعبي، وعلى تنامي دور وحدات المقاومة المرتبطة بمنظمة مجاهدي خلق في تحدي هيبة النظام وأجهزته القمعية. هؤلاء، وليس الجيوش الأجنبية، هم القوة القادرة فعليًا على إسقاط منظومة حكم بُنيت على الخوف والدم.

من هنا، تصبح مسؤولية المجتمع الدولي واضحة: الاعتراف الصريح بحق الشعب الإيراني ومقاومته المنظمة في مواجهة الاستبداد، بما في ذلك نضالهم ضد الحرس الثوري، ودعم مسار إقامة جمهورية ديمقراطية غير نووية، تفصل بين الدين والدولة، وتعيد إيران إلى محيطها الطبيعي كدولة تحترم القانون الدولي وحقوق الإنسان.

إن قرار 20 تشرين الثاني (نوفمبر) كشف حقيقة باتت لا تقبل الجدل: النظام في طهران يفضّل القنبلة على الخبز، والترهيب على السلام، والابتزاز النووي على الشرعية الدولية. والردّ الأخلاقي والسياسي المنطقي على ذلك لا يكون بالمجاملة، بل بالانحياز الواضح إلى شعبٍ يريد الحرية، وإلى مقاومةٍ تقدّم الضمانة الوحيدة لإيران بلا قنبلة وبلا ثيوقراطية.

فوقف المشروع النووي بصورة جذرية لن يتحقق إلا بإسقاط النظام الذي يتغذّى منه. وما لم تفهم العواصم الكبرى هذه الحقيقة، ستبقى تدور في حلقة مفرغة من القرارات العقيمة، بينما يقترب الخطر أكثر من نقطة اللاعودة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف