- 2


فى مقال له بتاريخ 17 من يناير 2005، تحدث الدكتور زغلول النجار عن الزلازل، و تحدث كذلك عن مكة المكرمة، كما تحدث عن أشياء أخرى كثيرة كما هى عادته دائما..
ولا يعنينا هنا كل شىء قاله فى هذا المقال، بل تعنينا أشياء معينة تعبر عن نكبة العقل التى نمر بها، أوردها سيادته فى مقاله ونافذته الأسبوعية فى جريدة الأهرام القاهرية من خلال حديثه عن الاعجاز العلمى فى القرآن الكريم.
وسيادته يخاطب جماهيره من موقع مفترض فيه أنه دينى، لكنه يغلف كل ما يتحدث به برداء علمى، و العلمى يخاطب العقل، بينما الدينى يخاطب العواطف الدينية، العلمى يتحدث عن مفاهيم و تعاريف واضحة و تفاسير قاطعة لا تقبل التأويل أو وجهات النظر، بينما الدينى، أى دينى، يحتمل الكثير من وجهات النظر والاختلافات والتفاسير، و هذا الخلط بين الاثنين يفتح الباب لأخطاء لا حصر لها تنفى عن كلامه تماما الصبغة العلمية، وسنحاول هنا أن نتعرض لبعض النقاط التى أوردها سيادته و التى نرى أن بها أخطاء جسيمة لا تؤهلها للعرض من منظور علمى..
النقطة الأولى: مكة المكرمة و الزلازل
كتب سيادته فى هذا المقال ما يلى: "ومن الشواهد العلمية علي أمن الحرم المكي ما يلي‏:‏‏(1)‏ حماية مكة المكرمة من الهزات الأرضية والثورات البركانية‏"وأسهب سيادته فى عرض بعض المعلومات التى لم نستطع التأكد منها، ليبين ان مكة المكرمة لم تتعرض أبدا للزلازل فى تاريخها، و اعتبر سيادته ذلك دليلا على أمن و حرمة الحرم المكى، لكن الذى فات سيادته فى غمرة السرد و الاسهاب أن هناك معلومات تفيد أن مكة المكرمة تعرضت يوما ما للزلازل، على سبيل المثال ما أورده ابن الأثير فى كتاب "الكامل فى التاريخ" فى أحداث سنة 515ه "تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام زاده الله شرفا من زلزلة وانهدم بعضه وتشعث بعض حرم النبي "، و هى معلومة واضحة تفيد أن الحرم المكى لم يسلم من الزلازل، مما يتناقض مع المعلومات التى أوردها
الدكتور زغلول النجار فى غمرة اسهابه و استرساله..، و لست أدرى ان كان سيادته يعرف أو يجهل هذه المعلومة..، كلا الاحتمالين وارد، و كلاهما أقبح من الآخر..

النقطة الثانية: مكة المكرمة و أمن الحرم المكى
كتب سيادته فى نفس المقال "رأي المفسرون في هذا النص القرآني الشريف التأكيد علي أمن من دخل إلي الحرم المكي علي اتساع مساحته‏،‏ فكل من دخل في هذا الحرم صار آمنا علي نفسه‏،‏ مطمئنا علي ماله‏"، ثم أضاف "ويروي لنا التاريخ أن كل جبار قصد الحرم المكي بسوء أهلكه الله‏،‏ ولم يمكنه من ذلك‏،‏ كما حدث مع أصحاب الفيل‏"
و هى أقوال توضح بما لا يدع أى مجال للشك أن الحرم المكى آمن من أى شىء، كما أن من دخله آمن من أى شىء، و أن كل جبار قصد الحرم المكي بسوء أهلكه الله‏، هذا مايريد الدكتور ان يوصله للقارىء، لكن للأسف كتب التاريخ لا توافق الدكتور زغلول على هذه المقولة، و هو بالتأكيد يعرف أن الحرم المكى ضرب بالمنجانيق فى عام 64ه على يد حُصين بن نمير فى عهد الخليفة الأموى يزيد بن معاوية، كما ضرب بالمنجنيق فى 73 ه على يد الحجاج بن يوسف فى عهد الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان..، كما انتهكت حرمته بفظاعة فى عام 317ه على يد أبو طاهر القرمطى، و سنسهب نحن هنا بدورنا فى ذكر ما فعله أبو طاهر القرمطى، حتى لا نتهم بأننا نتجنى على الدكتور زغلول، و سنورد الحدث كما أورده ابن كثير فى كتابه البداية والنهاية :"في هذه السنة‏:‏ خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما
شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة، وشعابها،وفي المسجد الحرام،وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول‏:‏ أنا الله وبالله،أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا‏.‏ فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك‏:‏ ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا، فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا
تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصلِّ عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر‏.‏ وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار‏.‏ فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال‏:‏ أين الطير الأبابيل‏؟‏ أين الحجارة من سجيل‏؟‏ ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم اثنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهباً إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج‏.‏وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحاداً لم يسبقه إليه أحد ولا يلحقه فيه، وسيجازيه على ذلك الذي (لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد‏) الفجر: 26." انتهى كلام ابن كثير..
والواضح من هذه الرواية التى أوردها ابن كثير أن أبا طاهر القرمطى قصد الحرم المكى بسوء، وأنه تمكن من ذلك بصورة لم يسبقه اليها أحد، و أن من كان بالحرم من الحجاج لم يكن آمنا، بل قتل منهم الكثيرون، و نهبوا و فسق بهم، حتى الحجر الأسود.. لم يسلم من الأذى.. بل و أخذوه معهم عند رحيلهم بعد هذه المذبحة..
ولست أدرى ان كان الدكتور زغلول يعرف هذه المعلومات أم يجهلها، كلا الاحتمالين وارد، و كلاهما، كما ذكرنا من قبل، أقبح من الآخر، و المحزن هنا أن سيادته يستخدم معلوماته الغير صحيحة لاثبات وجهة نظره، وهو يكتب هذا فى صحيفة كبرى، و يستحوذ على صفحة بالكامل..، فما الهدف من كل هذا؟ ما معنى تركه يبث معلومات خاطئة باسم العلم و الدين بهذا الشكل؟ وما هى النتيجة الايجابية التى تعود على القارىء من هذا الكلام الغير صحيح؟ و ما هى الرسالة التى تحملها هذه الجريدة للقارىء وهى تساهم فيما يمكن وصفه بتضليل القارىء وجعله يسبح فى بحر من الأوهام والأحلام الغير حقيقية؟ و كيف ننتظر ان نكون فى ركب الحضارة و نحن نهين العلم بهذا الشكل ونترك مروجى المعلومات الخاطئة ينتشرون بهذا الشكل ليصبحوا نجوم اعلام؟ و أى نكبة للعلم أكبر من هذا.. أن يطلع علينا سيادته بهذه الأقوال وباسم العلم ليؤكد على التقاء الدين بالعلم؟
و لكن.. السؤال الذى لا مفر منه هو، أنه اذا كان هذا بعض ما أخطا فيه النجم الكبير فى مقالة واحدة، فماذا عن مئات المقالات والبرامج التلفازية التى أنتجها سيادته؟ كم خطأ علمى يوجد بها؟ وكم عقل تم تخريبه وتضليله عن طريق هذه المعلومات الخاطئة؟ و هل هذه نكبة عقل أفراد أم نكبة عقل أمة بأكملها يخاطب سيادته الصفوة من المتعلمين فيها -والذين لا يزيد عددهم عن خمسين بالمائة من التعداد- بمثل هذا الكلام الذى يضاد العلم و يتنافى مع الحقيقة؟
والأمر فى حد ذاته يدفعنا لسؤال فرعى.. لكنه متعلق بالموضوع،وهو هل اهانة سيادته للعلم وقفت عند حدود معلومة خاطئة؟ أم أن اهانته للعلم توسعت لتشمل المنهج العلمى الذى بنى عليه فتوحاته العلمية؟ سنحاول فى مقال آخر أن نتعرض لهذه النقطة بتوسع أكثر حتى لا يقال أننا نتجنى عليه أو أننا نحمله أكثر مما فعل.. أو ان شئنا الدقة.. ما جنى..

عماد سمير عوض