حين يجد حزب ما ان مصالحه تتعارض مع مصالح الوطن والمواطنين فان المسالة ليست مجرد سوء طالع هبت فيه رياح غريبة بما (لاتشتهي السفن)، بل هي تتعلق بصميم تركيب وأداء هذا الحزب الذي اوصله سلوكه الى عتبة امتحان عسير لوطنيته يكون ملزما فيه على الأجابة (عملا لاقولا) على سؤال واحد وخطير هو: بمن تجوز التضحية، بمصالح الوطن والمواطنين، ام بمصالح الحزب؟
بالطبع لكل حزب سياسي مصالح حزبية خاصة، ولكن هذه المصالح يفترض ان لاتتعارض مع مصالح الوطن لأن مصالح الوطن هي (البوتقة) التي تمتزج فيها مصالح الجميع لتكوين مصلحة وطنية عامة. وحين يسعى حزب ما الى تفضيل مصالحه الحزبية على مصالح الوطن فانه يكون قد اعلن تمرده على الوطن بصيغ مختلفة اخطرها( التعالي) الذي يجعل الحزب في مرتبة اعلى من الوطن.
البعث العراقي بلغ هذا المآل بصراحة عبر عنها بعدة شعارات وقحة وفجة تقول: ان الوطني الجيد هوبعثي بالضرورة وأن لم ينتمي لحزب البعث، مقررا ان الأنتماء للبعث هو شرط الأنتماء للوطن وجاعلا الأخلاص لحزب البعث يفوق بأهميته الأخلاص للوطن، بل وأصبح الأخلاص للوطن دون الأنتماء الى البعث تهمة اسمها (معاداة الحزب والثورة) راح ضحيتها آلاف الوطنيين المخلصين.ان هذه السياسة التي سعت الى جعل البعث في المرتبة الأولى والعراق بمرتبة ثانية اوثالثة هي التي جعلت العراق في مواجهة البعث بحيث اصبحت الخيارات الوطنية المتاحة هي اما البعث او العراق.
لاشك ان هذا الخيار الحاد قد فرضه البعث نفسه واصر عليه، في الوقت الذي كان يقال فيه ان ثمة امكانية لحلول وطنية ترجع البعث الى بوتقة الوطن لتفعيل الحياة السياسية بما يزيل التناقض بين البعث والعراق. ومن هذه الحلول، التي عبرت عنها رسائل كثيرة وجهتها قوى وطنية عراقية الى قيادة البعث، التخلي عن فكرة الحزب القائد الأستبدادية وحل الأجهزة الأمنية الأستبدادية التي امتهنت كرامة الوطنيين، وأطلاق الحريات العامة بما فيها الحريات السياسية وتشكيل جمعية وطنية تقوم بوضع دستور ديمقراطي ينص على تداول السلطة عبر صناديق الأقتراع، ثم الدعوة لأنتخابات برلمانية ورئاسية تؤدي الى تشكيل حكومة شرعية منتخبة تنال ثقة المجتمع الدولي وتتولى حل كل المشكلات الداخلية والخارجية. في هذا الحل الوطني كان العراق سيربح حريته وكرامته واستقلاله بعد أن تسد كل الذرائع امام احتمالات التدخل المسلح الخارجي الذي كان يلوح في الأفق. وطبيعي ان حزب البعث كان سيخسر الكثير لأنه سيتحول من حزب اوحد يتحكم بمصير العراق الى مجرد حزب وطني له فرصة لاتزيد عن فرصة الأحزاب الأخرى، وسيفقد البعثيون الكثير من الأمتيازات وتسد امامهم طرق النهب والسلب واستغلال المناصب، ولكن في المقابل كان البعث سيربح اشياء كثيرة في مقدمتها سمعته الوطنية، وسيكون له فضل وضع العراق على طريق الديمقراطية الحقّه، وستكون له قدرة الأستمرار بالعمل السياسي اسوة بالأخرين، ومن يدري فربما سيكون البعث قادرا على الفوز بأغلبية برلمانية تمكنه من الأستمرار بالحكم ولكن بطرق شرعية. وفي اسوء الأحوال( في هذا السيناريو) لن توضع صور قادة البعث على (اوراق الكوتشينة) ولن يصبح قادة الحزب وكوادره مطاردين، ولن يضطر (القائد الضرورة) الى مقاسمة الفئران جحورها.غير ان نظام البعث قرر اما اخذ الكل او خسارة الكل، واعلن ذلك في شعاره الشهير( من اراد ان يأخذ السلطة السياسية من البعث فعليه أن يأخذ العراق ارضا بلا شعبا ).
بعد انتصار الثورة الأيرانية اجتمع صدام بقيادة البعث ليقول لهم: ان من اسباب انتصار الثورة الأيرانية هو عدم قيام ( شاه ايران) بتدمير كل شيء مفيد في ايران،وكان يفترض به ان لايترك للثوار شيئا يمكنهم من حكم ايران.!!
أن فكرة ( اما بقاؤنا في السلطة او تدمير العراق) هي صلب سياسة البعث العراقي وقد باشروا بتنفيذها منذ اليوم الأول لسقوط نظامهم وهم مستمرون بتدمير كل ماتطاله ايديهم.
(لو) أن صدام آمن بالمثل الشعبي الذي يقول أن (منهوب النصف غير منهوب) لأعطى لشركائه في الوطن نصفا ولأحتفظ لنفسه بنصف يقيه شر حفرة العنكبوت.
يجب الأعتراف هنا أن ال (لو) تتجاهل طبيعة البعث وتأريخه وتقدم حلولا مثالية تتنافى وهذه الطبيعة، فماذا كان يفترض بحزب ( تشيده الجماجم والدم) ان يتصرف بغير ماتصرف به؟ لو تصرف البعث بغير ماتصرف به لكفّ ان يكون بعثيا. لقد كان البعث في طريقة صعوده الغادر وسقوطه المدوي منسجما مع نفسه جدا جدا.
واليوم يواجه فرع الحزب في سوريا نفس الأشكالية التي واجهت بعث العراق. فكما أن الأنسحاب من الكويت واعلان الخضوع للقرارات الدولية لم يبعد المواجهة بين البعث والشعب العراقي، فأن انسحاب بشار الأسد من لبنان وخضوعه للقرار الدولي 1559 لن يلغي او يؤجل المواجهة بين حزب البعث والشعب السوري. ان مصالح حزب البعث السوري والمعبر عنها في سياسة النظام الديكتاتورية تتعارض مع مصالح الشعب السوري. فمصلحة الشعب السوري تنادي بالغاء مبدا (الحزب القائد) واشاعة الديمقراطية الحقيقية بما يؤدي الى تداول السلطة عبر صناديق الأقتراع، في حين أن البعثيين السوريين مصرّين على لعب لعبة الأطفال في النهر ( روج.. روج.. كله لي ) غير دارين أن (الروج) سيغرق الجميع أن ساء طبعه. فهل يعقل الأسد الأبن تجربة البعث العراقي لينقذ البعث من مصير مشابه لمصير شقيقه العراقي؟ ان ذلك ممكن ( نظريا على الأقل) وما على (بشار) سوى التمعن في المثل الشعبي العراقي ( منهوب النص غير منهوب) ثم اتخاذ القرار الوطني الصائب المتمثل في الغاء مبدا الحزب القائد واطلاق الحريات العامة وفي مقدمتها الحريات السياسية وتشكيل جمعية تأسيسية من كافة اطياف الشعب السوري تكون مهمتها وضع دستوري ديمقراطي حقيقي يراعي حقوق جميع المواطنين وخاصة الأكراد ثم اجراء انتخابات برلمانية ورئاسية تحت اشراف دولي. عندها تستطيع سوريا مواجة التحديات بكل انواعها.
ربما سيخسر بشار منصبه وربما سيخسر حزب البعث الكثير من امتيازاته ولكنهما سيكسبان شرف الأنتماء الى الوطن بدل عار (خيانة المصالح الوطنية من اجل مصالح حزبية وشخصية) الذي يجلّلهما.
اما سياسة انصاف الحلول والسماح لمظاهرة معارضة هنا وقمع اخرى هناك فأنها ستسارع في فلتان الأوضاع وفقدان السلطة لقدرتها على السيطرة على الأمور كما حدث في اوربا الشرقية. فليس امام البعث سوى خيارين اما الأستمرار في مواجهة الشعب السوري والأندفاع في ممارسة سياسة القبضة الحديدية لتأخير حدوث سيناريوهات مريرة يكون البعث اول ضحاياها، او تفضيل مصلحة سوريا على مصالح البعث والبعثيين عبر تسليم السلطة للشعب السوري والقنوع بدور الشريك في الوطن السوري الذي يتسع حتما للجميع.
ولاأضن ان قيادة البعث السوري التي تربت على الغاء الآخر وتعودت على التمتع بأمتيازات كبيرة قادرة على احداث هذا التغيير الديمقراطي السلمي،فالبعث اثبت انه قادر على القيام بأنقلابات عسكرية مغامرة ولكنه غير قادر على قيادة تغيير ديمقراطي سلمي يحرمه من ( حلاوة ) الأنفراد بالسلطة.
وعلى اية حال فأن البعث السوري يواجه اليوم امتحانا عسيرا سبقه اليه البعث العراقي، وكأي امتحان اما يكرم (حزب البعث ) فيه او يهان.
املي أن يخيّب البعث ظنوني وينجح في امتحان الوطنية الذي باتت استحقاقاته تطرق ابواب البعث مرة اخرى.
التعليقات