الأستاذ صلاح منتصر / تحية طيبة

المعرض الذى انتهى قبل أيام هو المعرض الخامس لمنير كنعان الذى رحل عن دنيانا في آخر ديسمبر‏1999،‏ وهذا المعرض الأخير عن النوبة وهى منطقة في جنوب البلاد أمام السد العالى كان من الضرورى أن تدفع ثمن بناء السد وتغرق تحت المياه التي ملأت البحيرة وفاضت علي الجانبين ‏..‏ وكان للنوبة وأهلها الذين اشتهروا بالامانة والنظافة بصرف النظر عن الفقر‏..‏ كانت لهم قرى وبيوت وحياة اختفت بعد بناء السد, بهذا المقطع العقيم والخالي من الموضوعية والمستفز لمشاعر النوبيين أستهل الكاتب المصرى فى عموده ‏مجرد رأى ( تمرد فنان) الصادر فى يوم الأحد 13 مارس 2005. قمة اللامبالاة عندما نرى مثل هذه المقاطع فى الصحافة المصرية تتكرر أمام أعيننا منذ فترة طويله ليست بالقصيرة. ألا تتحمل الصحافة المصرية شيئا من المسؤولية لعدم اكتراثها بالشعب النوبى حتى نفاجأ بهذا المقطع الإستخفافى؟ إلى متى يستمرالإعلام المصرى بيد هؤلاء القوم؟ ألا يفترض من رجال الأعلام أن يكونوا أكثر صدقا في تمثيل المجتمع الذى يصدر منه وعنه ؟

ملاحظه بسيطه: النوبة ليست أمام السد العالى, بل أن السد العالي بُنى فى داخل التراب النوبى، مع الأخذ فى الاعتبار أن اختلاف الرأى الإنسانى لا يفسد للود قضية. لا شك أن كل مصرى غيور على وطنه فى حاجة إلى إصلاح حقيقى فى مصر، كما كل نوبى غيور يريد العودة إلى وطنه العزيز فى النوبة السليبة. نحن مع وحدة مصر، وبنفس الأمانة نطالب باسترداد حقوقنا، وتطبيق العدالة والمساواة لأبناء النوبة، وعدم حصر المناصب الرسمية لذوى البشرة البيضاء والتى اعتبرها النظام من الوظائف التى لها مساس بالأمن القومى المصرى. حيث اعتبرونا مجموعة من المواطنين السود من الدرجة الرابعة ومسخرين للعمل كخدم فى سبيل صيانة ورقى هذا الأمن. لا يزال النظام يمارس المشاريع القمعية ضد الشعب النوبى في أبشع صورها، ناهيك عن تطهير عرقى ضدهم وإغراق حضارتهم الإنسانية العظيمة والعمل بإصرار على إبادة ثقافة الشعب النوبى الموجود فى المنطقة منذ بدء عصر النيونيل من الحقبة الثالثة ( كتاب نهر النيل للدكتور رشدى سعيد ) ومع هذه المشاريع الشوفينية العنصرية المنافية للضمير الإنسانى وضد كل النواميس الدينية والأخلاقية، بدأت هذه الطروحات تأخذ منحا تطبيقيا شاملا على جميع الأصعدة من عمليات التهجير والتغريب والتعريب والاضطهاد السياسى والثقافى والتي ساهمت فى تفكيك الخصوصية النوبية عبر سياسة خنق أنفاس النوبيين.. أمام هذه الممارسات العنصرية ماعلينا (النوبيين) إلا أن نتكاتف وليكن أن نضع ظهورنا إلى الحائط فلا مكان للتراجع وليس أمامنا سوى الثبات والنضال لاستعادة آدميتنا المفقودة. فلقد وردت كلمة عن السيد المسيح عليه السلام يقول فيها: من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ.. أو لتلك العبارة المألوفة التى تترد على ألسنة الناس: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. والقوة عندنا ليست كما هى عند الآخرين إنما القوة هنا تتم عن طريق الإقناع المنهجى والفكر السياسى ووسائل الإعلام العالمية وبنود حقوق الإنسان كما قررتها هيئة الأمم المتحدة.
لقد استفادت مصر من جراء غرق النوبة، ورغم ما تحمله أبناء النوبة الكثير من الخسائر الفادحة, إلا أن السلطة كانت وما زالت تزعم أنها أفادت النوبيين, لكن هذا لا يهم ما دام الأمر يحتاج إلى حركة وعى سياسى وإجتماعى نغير بها حال أمتنا النوبية ونستطيع بإحساسنا الصادق أن نلهب إحساس الشباب النوبى حول النوبة الجريحة. وليسأل أصحاب الأقلام فى مصر أنفسهم، هل تتعامل السلطة وتتعامل وسائل الإعلام المصرية مع النوبيين معاملة المواطنين؟ هل يتم التعامل مع النوبيين معاملة إنسانية منذ عام 1902 عامل بناء خزان أسوان ثم تهجيرهم النوبيين عام 1964 بعد بناء السد العالي؟ هل يعانى الشعب النوبى من مشاكل ؟ وماهى أسباب هذه المشاكل؟ وكيف نستطيع أن نحلها؟ وهل تقر الأديان السماوية هذا الفعل الشنيع؟ وهل تقره المبادئ والقيم الإنسانية التي جاء بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذى وقعت عليه دول العالم وافقت ووقعت عليها مصر؟ ونتساءل أيضا عن الموقف التآمرى من قبل النظامين المصرى والسودانى ضد الشعب النوبى فى السودان على توطين المصريين فى منطقة أرقين فى النوبة العليا بحجة وفرة الأراضى الزراعية فى المنطقة، متناسين أن الشعب النوبي يعانى تحت وطأة مخالفات السلطة السودانية المستمرة لحقوقه السياسية والاقتصادية والمادية. لماذا تعتزم حكومة السودان استجلاب المزارعين المصريين وتوطينهم فى الأراضى النوبية، والمزارعون المصريون ليس لهم أي أحقية في الاستيلاء على تلك الأرض النوبية؟! اعتقد أن فكرة استجلاب الفلاحين المصريين ليست قضية تنمية أكثر منها مؤامرة سياسية إستراتيجية لإزاحة النوبيين من المنطقة، وتصبح الساحة لهم وليتفردوا بمنطقة الحوض النوبى. ولهذا فإننا نرى السلطة الحاكمة تتجاهل وجود أكثر من ثلاثة مليون نوبى منتشرون فى منطقة النوبة السفلى والقطرى المصرى، وتنكر حقهم فى الحياة والحرية والمواطنة الحقة !. تشير العديد من التحليلات السياسية إلى أن مصر تعتبر أرض النوبة أرض احتياطى استراتيجى للتطوير المستقبلى للمصريين، لذلك تجاهل هيئة المساحة والتخطيط المصرى قضية أرض النوبيين ولم يضعها على الخارطة فى أى وقت من الأوقات، بينما الحدوته المصرية بأنسجتها الخيالية تنفى وجود حقوق ملكية للأقليات على أراضيها للتصرف.. لا شك أن الشعب النوبى القاطن في أجزاء الحوض النوبى تتمثل فيه شروط الأمة الواحدة والأرض المشتركة على الرغم من تجزئتها من قبل الاستعلائيين القدامى والجدد. النوبيون لهم تاريخ مشترك ولغة مشتركة وعادات وتقاليد مشتركة، بالإضافة إلى صلات الرحم والتزاوج والمحبة والمواطنة بحكم الهوية النوبية بين كافة القبائل والعشائر النوبية لأن الجميع نوبيون في الهوية والتربة والوطن والنسيج الواحد، ومن حقهم التوحد وإقامة ذاتيتهم الخاصة فوق أرض النوبة العليا والسفلى، مع الأخذ في الاعتبار مصلحة الشعب النوبى في هذه المرحلة من حيث الظروف المحيطة به تجنبا للمخاطر التي قد تنشأ والتى يمكن تنعكس سلبا على أوضاعه الحالية والمستقبلية. إن المطالبة بالحقوق المشروعة للشعب النوبى لا يعنى بالضرورة المطالبة بالانفصال أو الانقسام، بل تعنى الإعراب عن نضاله المتواصل ضد الاضطهاد العرقى وعدم المساواة فى المواطنة. الشعب النوبى يملك كل الحق في الكفاح، وبكل الوسائل والسبل إذا ما استمر تجاهل حقوقه المشروعة.

نطالب من كل القوى الديمقراطية المؤمنة بحق الشعوب في الحرية أن تقف إلى جانب أبناء النوبة في نضاله العادل من أجل الحرية، نطالبها بأن تقدم لهم كل الدعم والمساندة فى هذا السبيل. للأسف يرى الأخوة فى مصر النوبة كمنطقة بها مستودع مائى لتوليد القوى الكهربائية، والآن تنقل وتباع كهرباء النوبة إلى الدول الناطقة باللغة العربية, فى حين يعيش شعب النوبة بشقيه العليا والسفلى وسط ظلام حالك لينعم الآخرين بكهرباء النوبة، وأيضا ترى السلطة في مصر النوبة كمستودع للأراضى الزراعية الخصبة التى يمكن أن يتم انتزاع فائض القيمة منها بأعلى معدل ممكن على حساب الشعب النوبى ولصالح الشعب المصرى في الشمال، غاضين النظر عن ظروف النوبيين ومعيشتهم البائسة. السلطات المحلية فى أسوان تمنح بموجب مرسوم عنصرى مقيت كل الحقوق لأى مستثمر يطأ أرض النوبة تحت زعم قانون الإستثمارات وبحجة توظيف أموال المستثمرين فى تلك المنطقة النوبية، وتشجع المزارعين من صعيد مصر ومن دلتاها لتوطينهم في الأراضي النوبية وبدون مقابل، فى حين تمنع النوبى أن يطأ أرض النوبة أوالعودة إليها منذ أن تم طرده فى عام 1964. وللأسف الشديد نشعر بخيبة أمل شديدة من جراء تنكر الحكومات المتعاقبة فى مصر لمطالب النوبيين التى سبق ان تعهدت بها وأقرتها بعودة جميع النوبيين إلى مدنهم وقراهم وبيوتهم بعد انتهاء مشروع السد العالي. إننا قادرون على تحقيق أهدافنا، وقدرتنا هذه نابعة مـن سلامة أهدافنا النوبية، والاستعداد الكبير لدى شعبنا باستخدام كل وسائل الصراع المدنية سواء أكانوا فى أرض النوبة التاريخية أوخارجها من أجل العودة إلى الموطن النوبى التاريخى، وعلى النوبيين أن يرفضوا أى حلول تقوم على أساس التسويات السرابية الخادعة، وأن يسقطوا قانون اللاعودة وغيره من القوانين العنصرية المركزية واللامركزية، فضلا عن ضمان عودة جميع اللاجئين النوبيين لديارهم مع تعويضهم عن كل مافقدوه وتكبدوه طوال سنوات النفى القسرى عن وطنهم السليب.
يجب علينا أن ندرك جيدا أن الدفاع عن النوبة هى أحد أهم المعارك الإنسانية في العصر الحالي لاستعادة موطن بهضابته وصحاريه ومياهه وروافده.. النوبة أرض مباركة وأبناءها مثل الملح لايمكن أن تكون النوبة نوبة حقيقية بدونهم ولايمكن للنوبة ان يكون لها معنى بغيابهم, فهم جزء من جذوع النخل السكوتى أوالأبريمى، يزرعون فى ربوعها الخير والتسامح ورموز القيم النوبية الأصيلة.. إن مشكلة مصر مع النوبيين هو أنها لا تريدنا فى وطننا التاريخى وفق سياسة منهجية استعمارية إستيطانية، الهدف منها تشتيت النوبيين وطمس هويتهم الثقافية وشل قدراتهم لحملهم على التخلى عن لغتهم والتبرؤ من هويتهم وانتمائهم النوبى, وصولا إلى تعريبهم من خلال تدابير وإجراءات كثيرة منها عبر تغيير الأسماء التاريخية والحضارية للمدن والقرى والنجوع النوبية والعديد من التلال والجبال والمواقع الأثرية واستبدالها بمسميات عربية لتغيير الواقع النوبى في منطقة الحوض النوبى، ومنع الموسيقى والأغاني النوبية الحزينة وهى تحكى أجمل القصص عن بيوتنا البيضاء ذات القباب البيضاء المستديرة وأروقة معابد النوبة القديمة في كلابشة والسبوع وعن قصرأبريم ومعبد أبوسمبل وأساطيرنا الشعبية التى تعدها من أهم نفائس تراثنا المتدفق من أعماق اصالتنا الضاربة فى إغوار الماضى، ومحاربتها في إطار السعي لطمس الثقافة والخصائص النوبية. وتستمر السلطة في ممارسة الإجراءات العنصرية من استبعاد النوبيين من مناصب حكومية حساسة، وحرمان شباب النوبة من القبول في الكليات الأمنية والعسكرية، وسد أبواب السلك الدبلوماسي في وجوههم مهما بلغت درجة مستوى تحصيلهم العلمى بسبب اللون والملامح الأفريقية، وإعاقة وزارتى التعليم والشباب الجهود النوبية الساعية لفتح مدارس ومراكز ثقافية نوبية، ونوادى رياضية وإجتماعية.

نود أن نقول إننا كشعب أعلنا وسنعلن دائما بأننا نوبيون، وهذا التمسك بانتمائنا النوبى حق طبيعي لنا، ولا ينتقص هذا شيئا من كرامتنا، ولا من مطالبنا الحقة، بل على العكس تماما، فإنه يزيد من جمال الإنتماء النوبى وثقافته الوطنية، ويوجب علينا أيضا أن نجدد مناهج حياتنا بما يجسد حقنا في الحياة وبالطريقة التي نحبها نحن وليس كما يريدنا الغير أن نكون هامشيين، فالحقوق لا تتجزأ وليست هبة علينا أن نتوسل لتمنحنا إياها السلطة الاستعلائية، ممارستنا لنوبيتنا بكل أعماقها هي حقوق موجبة مقررة شرعا وقانونا وليست وجهة نظر قابلة للنقاش، هي منطلق لخلق أفكار أكثر سعة وأكثر رحابة. فقد حل علينا عصر جديد، وآن الأوان أن نطالب ونصر على نيل حقوقنا المغبونة منذ زمن طويل وان نكشف عنها، آن لنا أن نفضح هذا التراكم الثقيل من الظلم والإجحاف. إن إصرار السلطة في مصر على اضطهاد الأقليات العرقية والعقائدية لا ييسر لها أساس طبيعي للحياة المستقبلية. وحقيقة النوبة قد لا يعرفها إلا من عرف النوبة, فالعواطف قد تفتر لبعض الوقت، بل تنتهى بمضى الوقت، ولكن ما بنى على أسس خالدة من وطنية راسخة سيظل ما ظل الوجود، وإن توارت الأجساد في اللحود. لذا ففى النهاية أعتقد أن المسؤولية الكاملة تقع على عاتق النظام الذى ينشر الجهل والظلم وعدم قبول الآخر.. ولنا عودة لهذا الامر مستقبلا.
فؤاد شباكا / نوبى مصرى
ومهتم بالملف النوبى
[email protected]