ولد الشاعر أديب كمال الدين في بابل 1953 واكمل دراسته الجامعية ببغداد ليحصل على بكلوريسين الاول في الاقتصاد والثاني في الادب الانكليزي.أصدر المجاميع الشعرية: تفاصيل، ديوان، جيم،نون، أخبار المعنى، النقطة، حاء. كُتبت عن تجربته التي تستلهم الحرف العربي مجموعة كبيرة من الدراسات والبحوث النقدية. كما تـُرجمت قصائده الى الانكليزية والفرنسية والكردية ونُشرت في مختارات شعرية عراقية وعربية واسترالية كما شارك في العديد من المهرجانات الشعرية في العراق والاردن واستراليا وفي ربيع الشعر (ملتقى الشعر العراقي – الفرنسي ). عضو في عدد من المؤسسات الادبية والصحفية والترجمية العراقية والعربية والاسترالية. ترجم الى العربية اعمالا ادبية وشعرية لشعراء وكتاب من امريكا والمانيا والصين واليابان وأستراليا ونيوزيلندا وكوريا. يقيم حاليا في أستراليا.
لمزيد من المعلومات يرجى زيارة موقع الشاعر:
www.adeb.netfirms.com
الحرف والشعر عند أديب كمال الدين:
طوال تجربتي الشعرية، اعتمدتُ الحرف وسيلة شعرية وملاذا ً ابداعيا. لقد أردتُ استكناه سر الحرف: اطلاق مسراته العميقة او حرمانه العظيم في لعبة المأساة التي تحرقنا ونلتذ بحريقها وتحمل اسم القصيدة. ان هذا الاستكناه، كما اعتقد، خطير في كشف دوخلي و مزج ازمنتي لخلق اساطيري الخاصة على نحو خلاق، كذلك في اطلاق متعة الشعر ومنحه فرصة ان يكون حيا وان يبقى حياً زمنا ً طويلا ً. لقد تحقق للعربي معجزته الروحية الكبرى اعتمادا ً على اللغة وتأسيسها عليها (القرآن المجيد) مثلما كان يحقق حركة ساعات يومه الاجتماعية والفكرية والفلسفية والابداعية اعتمادا ً على اللغة والتي بثها شعرا ً متفوقا قبل شروق شمس الاسلام العظيمة على جزيرته. وما دامت اللغة بالنسبة للعربي بهذه الاهمية فان اختيارها ملاذا ً شعريا ً، ومن ثم، التزامها بهيئة مبدعة، يجعلنا نمسك بالوتر النابض في الآلة المدهشة. لكني في رحلتي لم أبقَ مقيما ً في شاطىء الكلمة ضمن منطق شعري معروف ومتعارف عليه، بل انطلقتُ الى محيط الحرف الغامض السريّ العجيب. وفي هذا المحيط حفرتُ منجمي ومسرحتُ عويلي ومارستُ احتجاجي واطلقت صيحاتي وخلقت مسراتي وكتبت شاهديتي، وكل ذلك طلبته واطلبه من خلال مستويات عديدة ينتمي اليها الحرف، كما ارى ، والمستويات هي المستوى الدلالي، الترميزي، التشكيلي، التراثي، الاسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، القناعي، الايقاعي، الطفولي.
لقد عمدتُ في قصائد مجاميعي الشعرية (جيم)،( نون )، (أخبار المعنى)، (حاء)، (النقطة) الى اجراء حواريات بين هذه المستويات التي يمتلكها الحرف، وخلطها، احيانا لاستخراج تركيبات جديدة من المستويات او استخراج مستويات جديدة في الصورة الشعرية او معناها الملغز. ان هذا الحوار او هذا الخلط او التركيب سيؤدي الى كشف مستويات ابداع شعري تندمج فيها طفولة ُ الحرف بطفولتي، وطلاسمُ الحرف بطلاسمي، ورموزه برموزي، وروحه بروحي، وتراثه بتراثي، وسحره بسحري،ودلالاته بدلالاتي، وهيئته بهيئتي، وخوارقه بخوارقي، وقناعه بقناعي، وايقاعه بإيقاعي، وأساطيره باساطيري، وهذا برأيي اقصى عناوين الشعر.
نعم فالحرف – كما افهمه - هو التعويذة الوحيدة التي لا ترتبك وهي تواجه جنون عالمنا المعاصر، بل هي تتماسك. وهي لا تمّحي بل تمحو، حاملة ارث كلما هوعميق وعظيم، قديم ومعاصر في الوقت ذاته.الحرف حرب ضد الرداءة ، فيه اغوص لاصطاد ثروة المعاني واشتري ثياب المعرفة واتعمم بنور الاعماق. فيه استرد طفولتي المحطمة و شبابي القاسي وكهولتي الاقسى. الحرف، كما ارى، شبكة لصيد البهجة، والحلم، والشمس، والفجر، والالم العظيم.الحرف سر عظيم لايعرفه حق المعرفة الا القلة، وكلما ازدادوا معرفة به ازدادوا معرفة بالعالم، وكلما ازدادوا معرفة بالعالم ازدادوا جهلا ً بانفسهم وبالشعر، وبالحرف حتى!
القصائد
- محاولة في سؤال النقطة
- صورة الولد في ورق اللعب
- كلمات
- ضحك
- محاولة في اللقاء
- محاولة في البهجة
- محاولة في العزلة
- محاولة في النافذة
- جسور
- أخبار المعنى
- موت المعنى
- خسارات
- غزل على طريقة فان كوخ
- غزل حروفي
- محاولة في السحر
- محاولة في القهقهة
- أنا وابي والمعنى
محاولة في سؤال النقطة
(1)
على نار شمعة
أريد أن أذيب أهرام حزني
وعلى نار دمعة
أريد أن أحرق رماد شبابي
وعلى نار اطلاقة
أريد أن أبدأ أو أنهي سمفونية دمي.
(2)
سقط الزمن
سقط من رأسي الى قدمي فمت
وكان سقوطه مدوّيا حتى أيقظني من نومي
فضحكت !
(3)
الموتُ على الأبواب
الموتُ هو الصديق الوحيد الذي يتذكرني بعمق
ولايكفّ عن ارسال أزهاره السود اليّ
بالبريد المسجل .
(4)
ضاع الشتاءُ في المطر و الوحل
وحين أرسلتُ الصيف ليبحث عنه
لم يرجع أبدا
وقيل انه شـُـغـِـلَ بعري الربيع .
(5)
وقيل ان الزمن
لاشتاء فيه ولا صيف ولا ربيع عري
الزمنُ مدن بهيئة مقابر مضيئة
وضوء عذب ينير جثث المسافرين.
(6)
الزمن أنا
والزمن أنتِ
أنتِ التي لاقطار عندك
وأنا الذي لامحطة عندي ولا قضبان.
(7)
من دمكِ اقتبستُ موتي
وكتبتُ رواية ألفي
وترجمت هزائم نقطتي
الى سبعين لغة حية ومنقرضة .
(8)
حاصرني الشتاءُ مجددا بأكاذيبه وزخّـاته
فحاولتُ أن أحاصره بحروفي
ولكني احترقت و غرقت .
(9)
أنتِ أكذوبة
وأنا الحبل الذي تنشرين عليه أكذوبتك
أنتِ اعتراف
وأنا متهم اعترف مطمئنا بجرائمه الالف
ثم نام كطفل بري ء .
(10)
أنتِ........ من أنت؟
وأين هي نقطتك؟
فوق حيث الشمس تسقط ببلاهة؟
أم هي تحت
حيث الشمس يسرقها الكفرة الفجرة؟
(11)
أنتِ....... من أنت؟
أنتِ جريمة قتل متكاملة
لاتنقصها الا الاطلاقة
وابتسامة القاتل الهادئة .
(12)
أنتِ جريمة قتل متكاملة
لا ينقصها الا أنا.
(13)
أنتِ دعوة لـّلذة
أخاف كتابتها لأنّ أبجديتي سماوية
وحبري مقمر بالأسرار .
(14)
أنتِ اطلاقة الرحمة التي نسيها الجلاّد
ونام على الأرجوحة
تاركا ضحيته تئن ّ
عبر كأس الرمّان .
(15)
أنتِ موسيقى تهرب
الى أعماق الامطار لتنام .
(16)
أنتِ جسد أضاع نقطته
فحاول قتلي في الممر .
(17)
أنتِ خرافة تسير على قدمين .
(18)
أنتِ عريي الذي حاولتُ تأجيله
فلم أستطع
الا بعد أن لبستُ ثياب الألف
وتعممتُ بعمامة النون.
(19)
أنتِ أسطورة صنعتـُها من اللاشيء
من اللاجدوى
من اللامعنى
من اللامستقر
وحين أفلستُ
بعتُ اللاشيء مقابل طفولتي
واللاجدوى مقابل صباي
واللامعنى مقابل لذتي
واللامستقر مقابل جثتي
لكنْ بدل أن تبتهج أسطورتي
أطلقتْ عليّ النار !
صورة الولد في ورق اللعب
الى: د. حسن ناظم
(1)
في طفولته
جلسَ في الشارع يستجدي أمّا.
في صباه
جلس في المقهى المقابل للمقبرة
يستجدي أبا
في شبابه
جلس في التاريخ يقلـّب السنين
يستجدي جدّا
وحين شاخ
تذكـّر انه لم يلعب القمار أبدا
فقامر ليخسر كلّ شيء:
الشارع والمقهى والتاريخ
الطفولة والصبا والشباب .
(2)
بعد خسارته المرعبة
فتــّش جيوبه تحت شمس الغروب الكبيرة
فوجدها فارغة ً من كلّ شيء
إلاّ من صورة الولد في ورق اللعب
صورة الولد التي، ربما، دسّها الدهر
في جيبه المتشظـّي
ليعمّق خرابه و زلزاله .
( 3)
كان الولدُ جميلا
فقطع من أجله الصحراء الكبرى
ليراه.
نعم، كان أجمل من دمعة ملاك.
وحين كبر الولد
تغّير كل شيء.
قيل له انّ الولد هو الشيطان
إنّ الولد هو الشين
هو النون
هو النقطة.
(4)
الولد قال
قال الولد:
إنّ مَن تجلس بجانب الملك
لاتستحق ذلك
لانها تلعب لعبة الآه
وقال:إن مَن تجلس تحت قدم الملك
لاتستحق ذلك
لأنها تلعب لعبة التعرّي
وانّ مَن يحمل مروحة الملك
ويسوق عربته
لايستحق ذلك
لأنه يعرف ان الهواء فاسد ولايتكلم
ويعرف ان العربة ترجع الى الوراء فقط
ولا يرفع الشارع من الخلف
وقال الولد
وقال .
(5)
قيل انّ الولد بدعة
والولد ضلالة
والولد هلاك مبين
مادمنا نركب السفينة الخطأ
في البحر الخطأ
في الاتجاه الخطأ
ذاهبين الى شمس الخيانة والنحاس
لاشمس الطمأنينة والذهب.
(6)
ما الذي جعلني أصدّق بما قال الولد؟
كان الولد ُ جميلا
يضع على رأسه تاج الشباب
ولؤلؤة المعنى
وساعة بلا عقارب.
كان الولدُُ صادقا ً كالسيف
كالسيف الذي قطع رأس أجدادي
ورأس حلمي
و رأس حرفي و نقطتي.
(7)
الى أين المسير الآن؟
هل كان الولد يكذب أم يبالغ؟
هل كان الولد يحلم و يهذي؟
أم كنت أنا مَن يحلم و يهذي؟
هل انّ الولد في ورق اللعب حقا؟
أم انّ اللعب في صورة الولد؟
من منّا الولد ، ومن منّا الأب؟
هل انّ الولد هو الامير؟
هذا ما أقوله بالتأكيد
وأقول كلمة ً واحدة:
الولدُ هو ماتبقـّى لي
بعد ان خسرتُ كلّ شيء
الولد هو المنفى
المنفى الذي أراه الآن
من شرفتي الملكية
المحاطة بالنار والشتائم والحشود العارية
المنفى الذي أراه
دون عينين
دون شفتين
المنفى الذي تتدحرج أحجاره
ببطء وألم ٍ عظيمين .
كلمات
( كلمات هي ابنة الشاعر لم تصل بعد الى العاشرة من العمر )
(1)
كلما أريدُ أن أشرب الكأس:
كأس السمّ
كما فعل سقراط
أتذكـّرك
فأرمي بالكأس بعيدا.
(2)
كلما أريد أن أسافر خارج الملكوت
كما فعل دانتي
أو أضيّع أخي ونفسي
كما فعل أخوة ُ يوسف
أو أدخل النار
كما فعل ابراهيم
أتذكـّرك
فأكفّ عن السفر،
والضياع،
والنار.
(3)
لابأس اذن
أن تأخذي بيدي ثانية الى الحياة
لابأس..
ولكن ما العمل
وصديقي المخلص: صديقي الموت
لايكفّ عن طرق الباب؟
أخبريه
ببراءة قلبك المعجون بألوان الفراشات
ألاّ يرجع
إلاّ بعد أن نلتقي
على قمّة جبل الحرف،
أو المنفى
أو الخرافة.
(4)
لابأس اذن
أن أرجع لأمارس دوري
في مسرحية البشرية الضائعة
مسرحية تمتد فصولها من بابل الى بغداد
الى بيروت الى برلين الى لندن
ثم الى جهنم بالتأكيد.
لابأس اذن
أن أرجع لأمارس دوري
كأبّ لك
ولكنّي لا أحسن الكلام معك
لأنّ أبجديتك ِعمرها ستة آلاف سنة
ولا أحسن الرقص معك
فكريّات دمي البيض والحمر
دمّرها القهر والسبي
ولا أحسن اسداء النصائح لك
لأنّكِ أكثر نضوجا
من ملكة النحل.
(5)
هكذا اذن
أنحني أمامك
كأسدٍ أعجف
حـطّـمته السنين و الوحشة و الزلازل
أنحني أمامك
وأطلب منك ثانية،
بل أتوسّل كشحّاذ هندي،
أن تسمحي لي بشرب كأس السمّ
وأعدكِ بأنني لن أشربها ثانية
يا ابنتي !
ضحك
سقط المطر
قطرة ً قطرة
موجة ً موجة
بحرا ً فبحرا
حتى طلعت الشمسُ راقصة ً بنورها العجيب
ضحك الأطفال
وطاروا خلال أشجار اللوز و التفـّاح و البرتقال
ضحكت الصبايا الصغيرات
وانتبهن الى نهودهنّ الجميلة
وضحكت العاشقاتُ اللائي حطـّمهن العشق
وصيحات ُالجسد المكبوت كلّ ليلة
ضحكت العصافيرُ و الزرازير
وسط النور والدخان
ضحكت الساعاتُ والمستشفيات
والمرضى اللذين يبحثون عن وميض الشفاء
ضحك الشرطي والطاغية
ومفجرّ القنابل والموظف البليد
وحرسُ الحدود المرتشون
ضحك الأولياءُ والذاهلون والمنفيون
ضحكت الراقصاتُ بملابسهن العارية
وضحك تلامذة ُ المدارس
ومحاسبو المصارف
وسائقو التكسيات
ضحك الحمّالون
وبائعو الفواكه واللصوص والمخبرون
ضحك العباقرة ُ وأنصاف العباقرة
والمخنـّـثـون والعابرون
ضحك المبتهجون بالعري
وامتلاء المائدة بالنبيذ
ضحك القتلى والغرقى
ثم ضحك الموتى جميعا
واشتدّ الضحك
اشتدّ
اشتدّ
وحدي كنتُ أتأمل المشهد
وأبكي
وحدي كنتُ أتأمل المشهد
وأموتُ ببطء .
محاولة في اللقاء
(1)
في سوق عريك
أنفقتُ كلّ ما أملك
دون أن أرى شيئا .
(2)
بعد أن أحببتك ِ.. وانتهى كلّ شيء
وبعد أن كرهتني.. وانتهى كل شيء
إلتقتْ محبتي بكراهيتك
وتبادلا الطعنات حتى الموت .
(3)
لو دخلتْ نقطتي في هلالك
لأشرقتْ شمس أخرى
وقضتْ على ظلام الليل الخرافي .
(4)
لو دخلتْ نقطتي في هلالك
لاستعدتُ طفولتي المسلوبة
من سوق اللصوص و المرابين .
(5)
لو دخلتْ نقطتي في هلالك
لنبتتْ لقلبي شجرة تفاح أحمر .
(6)
لو دخلت نقطتي ..
لكفّ قلبي عن البكاء بين يدي السفينة
و ذاكرتي عن انتظار الغراب و الحمامة الضائعين .
(7)
جسدكِ وليمة
ولكنْ ليس لأمثالي
إنه وليمة الوحوش المهذبين .
(8)
ما أن دخلتُ سهلَ حبك
حتى بدأتْ جبالُ عجرفتك بالظهور اليّ
أنا الذي لا أملك سوى كفـّين داميتين للتسلق .
(9)
لو دخلتْ نقطتي في هلالك
لاكتشفتُ أبجدية جديدة
تبدأ بالنون و تنتهي عند نقطتها
كما ينتهي البخيل عند كيس ليراته كل ليلة .
(10)
لو دخلتْ نقطتي ..
لتوقف قلبي عن اطلاق العيارات النارية
على الحروف !
(11)
لو دخلتْ نقطتي ..
لتحوّلتُ الى راع لضفائر أكاذيبك الجميلة .
(12)
لو دخلتْ نقطتي في هلالك
لكان بإمكاني أن أمسك الغيوم
و أرسلها حيث أشاء
ولكان بإمكانكِ أن تمسكي النجوم
وتلصقيها على ثدييك و ساقيك
وتصنعي بالباقي لنا طبقا من القبلات !
محاولة في البهجة
مددتُ يدي إلى الله
إلى ماشاء الله
وإذ نظر إليّ برحمته التي وسعتْ كلّ شيء
لم يضع في كفـّي المتوسلة ذهباً
ولادنانير فضة
لم يضع فيها سوى حرف صغير
كان يلتمع أملا ً كعيد طفل يتيم .
وإذ نظر الله إلى دمعتي الحرّى
وقلبي المحطـّم
سارع ليضع وسط الحرف نقطة
فامتلأ قلبي ذهبا ً ودنانير فضة
حكمة ً وبهجة ً ومحبّة
هكذا كنتُ صحراء فكان الحرف جَمَلا ً
هكذا كنتُ ضياعا ً فكانت النقطة ُ معنى
هكذا كنتُ حتى امتلأت
هكذا طرتُ أنا وجَمَلي
طرتُ كغيمةٍ من نور .
محاولة في العزلة
(1)
بعد أن سقط الأصدقاء والأشقاء
في بحر الكراهية
ركبتُ زورقي متجها ً الى بحيرة دمي
مجاذيفي الحروف
و وجهتي النقاط
يتبعني جمع من النونات .
(2)
بعد كوارث لا تـُحصى
وصلتُ الى نفسي
واستقرّيت فيها
و فرحتُ كما تفرح جثة بلحدها الجديد .
(3)
هكذا فأنا أجلس في نفسي
لأحرس نفسي
ولكي لا أنسى ما صُـنِـعَ بي
وضعتُ رمحا ً على بابي
خضّبته بدمي
و صنعتُ من الطين
رأسا ً كرأسي
وضعتهُ على الرمح
و بكيت ...
بكيتُ حتى سالت روحي
فرددتها اليه ... الى الرأس .
(4)
كلّ صباح أركعُ أمامه في خشوع
لأقول له:
( صباح الخير
أيها الرأس المثقل بالأسى و الحروف ).
فيردّ عليّ في هدوء عظيم:
( صباح الخير
ياصاحبَ العزلة السعيدة ! )
محاولة في النافذة
(1)
جلستُ الى النافذة
كي أرى أطفالي يطيرون عبر الزجاج
و أمهم تلوّح لي
كي أرى أصدقائي يفرّون الى حروف الأقاصي
و أرى نقطتي تحلـّـق شيئا ً فشيئا .
جلستُ الى النافذة
جلست ُالى نفسي
فوجدتها تطير الى النافذة
لكنها اصطدمت، و ا أسفاه، بزجاج الموت .
(2)
جلستُ الى نفسي
جلستُ الى النافذة
و صرختُ بالأطفال الذين يلعبون في الشارع: ( اذكروني )
لكنهم كركروا كغيمة فرحة .
و صرختُ بالقتلى الذين قاتلوا من أجل ربيع الوهم
لكنهم تسربلوا بدم لزج.
و صرختُ بالسكارى والقحاب
لكنهم انشغلوا بشتائمهم و مهاتراتهم .
وصرختُ حتى كادت النافذة
أن تقع على رأسي المذهول .
(3)
ولذا سأنادي: أبي
ياسيف صحراء الحرمان ،
أبي
أيها الشفوق كهلال العيد،
أبي
ياثمرة الغيب و نتاج العظمة،
أبي يا أبي
أغثني أغثني
فالرماحُ تكاثرت
والنافذة
ضاقت بما ترى
فخفتُ أن تتسع
أو تجنّ .
(4)
أبي
ضاقت النافذة
بنفسها و تحطّمتْ
ونزل زجاجُ الموتِ الى الشارع،
فأزلتهُ بلساني الجريح
يا أبي .
جسور
(1)
قالت النقطة ُ للحرف:
لم يكن قلبكَ مولودا ً في برج الحمل
بل في برج العذاب
كان قلبكَ وميضا ً من القـُبلة والخطيئة
من الرغبةَِ والطيور التي تحلــّـق من قارّة الى قارّة
كان وميضا ً من الكلمة التي مزّقتها السكاكين
والكلمةِ التي طـِلبَ من الممثل الأخرس الأعمى
أن يطلقها في نهاية المسرحية البلهاء
ليلعن نهاية العالم!
(2)
قال الحرفُ للنقطة:
هل تتذكرين الجسور التي عبرناها؟
كانت جسورا ً
مليئة بالفرات والسمك اللابط تحت أشعة الشمس
كانت جسوراً مليئة بالدوّي والدخان
مليئة بالعيون التي كادت أن تفترسَ جمالك
وكانت مليئة، بعدئذ،
بالخناجر التي مزّقتْ جسدكِ البضّ
وحلمك العظيم
ياه..
هي ذي جسور علي بن الجهم
حيث لارصافة
وجسور الرصافة
حيث الكرخ يحترق كلّ يوم
ويغرق.
(3)
وقال الحرف:
هل تتذكرينني بعد هذا الفراق؟
هل تتذكرين ذلك الأعمى الذي غسل قدميك بالحليب
أربعين عاماً
ذلك الصبي الذي كان يغرق كلّ يوم
في فراتكِ العالي ونهدكِ الناري
ذلك المهووس إذ افترش الصوفَ النتن
وارتجفَ تحت ذيل الكلب
كي يرى نورك الأسود؟
وهل تعرفين مغزى أن أطير
من أجل عريكِ العجيب
من كلمة ٍ عجيبة ٍ الى كلمةٍ أعجب
ومن قصيدة ٍ مُلغـَّزة ٍ الى قصيدة ٍ أكثر تلغيزاً وارتباكاً
ومن بحر أحمر الى بحر أكثر أحمرارا
ومن قارة الطغاة والجياع والملعونين
الى قارة أشدّ شراسة من النمر
وأجمل من قفزة الكنغر الوديع؟
(4)
وقال الحرف:
هل تتذكرين كم أرادوا أن يكشفوا سـّركِ
كانوا يطرقون البابَ كالمجوس يحملون نارا ً مزّيفة
ليبادلوها بوهجكِ الأسود
أو يحملون ريشاً مُنـَهـَكاً وقطناً مبللا ً بروائح زنخة
أو أطرافاً آدمية وُضِـعَ عليها الجبس
ويصرخون:
أيها الحرف
لِـمَ لا تنزل نقطتكَ من الأعالي؟
ألا تعجبكَ هدايانا: الريش والقطن والجبـس؟
أما تعبتَ من الجلوس فوق الجبل
وكتابة القصائد فوق سطح البيت
حيث الصيف المقمر والعذاب المزدهر؟
وقالوا،
أو قال بعضُهم:
يالسـّركَ
يالاعجوبتكَ الماثلة أيها الحرف
لقد أ ُعْطِـيتَ نقطة ً ففرحت
وأ ُعْطـِينا لغة ً كاملة ً فلم نفرح.
ياه، أيتها النقطة،
لم يعرفوا انـّـكِ أعظم
من لغةٍ كاملة
لأمـّةٍ مـُعذ َّبة تنام فوق سطح البيت
حيث الصيف المقمر
والأشباح التي تقفز عارية كعري السكاكين
أخبار المعنى
مرّتْ سبع مثمرة بالموحش من أخبار الطير ِ وأخبار الوحــشِ،
الناس. ومرّتْ سبع مثمرة بالطيّب من أخبار العسل ِ الأسـودِ
والزنبق ِ والماء. ومرّت ْ سبع لاهية لاتعرف بيتا أو عنوانا ً أو
معنى، وأنا أتجلىّ في لغةِ الجسد ِ الغامض أمحو أمطارا ً لم تسقط ْ
وغيوما ً لم تفزع و بحيرات من أسباخ طفولتي المرة، أشكو وجعي
للسنوات وما من سنوات تقدر أن تفهم هذا الوجــع الأزرق،
أشكو معناي المقتول الى الكلماتِ الفضّةِ: لاجدوى ، الكلمـاتِ
الرمل: فلا جدوى ، الكلماتِ النار: فلا جدوى ،أخرجُ مفزوعاً.
دارت دائرة ُ السعف العالي في جسدي: والريح مضت، سنوات
انقرضت: ماذا أفعل كي أنجو من حلم يتلبّس خاصرتي، يأخذني
للمنفى، يدفنني حيا ً، يخرجني ، يوقفني قدّام الله وحيـدا ً
ويضيّعني كي يلقاني في الليل فيقطع رأسي إذ أعبر جـدران
الحكمة؟ يهوي الرأس بنهر الطابوق المنهار، أصيح بجمع الناس
و.... هذا رأسي فانتبهوا ! يبقى الجسدُ المدهوشُ عنيفا ً لايعرف
للموت طريقا أومعنى.عذبني المعنى.قاد المعنى بيتي نحوالمنفى، ألقى
القبض على أسئلتي ، أودعني حجرات المنسيين وأخرجني نحوكِ
مفتونا ً فوجدتكِ في ذات الغرفة ِ في لغة ِ الفضة ِ عارية ً فذهلت.
ومرّتْ أزمنة وأنـا أتجلّى في عريك ِ حتى فنيتْ عيني ماتتْ،
واخرست أذني عن نطق ِ الكلمات ِ ومرّتْ أزمنة حافية مثمــرة
بالاشواك . التهبت ْ أسناني ، ســقطتْ. قامت أمراض الدنيا في
جسدي. أكل الـدود ُ أصابع َ أقدامي. والتفّ الموتُ على خاصرتي،
وتقاذفني ذئبُ الذهب الذائب حتى ضحك الثعلب: ثعلــــب
أصحابي من فرط طفولة قلبي. وبكى الصيف ُ على عريي الفاضح،
وافرنقعت الغيمة ُ عنّي تركتني . فرأيتُ الموتى يقتلون ببابــكِ
دهرا ً فتساءلتُ نبيا ً مجنونا ً عن معناك ِ: اسمك ِ: من أنت ِ؟ أميم
المعنى أم باء البلوى أم راء الرغبة ام فاء الفتنة ، شــــين
الشهوات؟
سقط الماضـي وأتى ما يأتي وافرنقعت الســــاعات ُ فلا جدوى .
جسدي يخضّر كعشب و يموت كرمل و يضيع بنهر الكلمات فلا
جدوى. أ ُقـْتــَلُ أو يُرفَعُ رأسي فوق الرمح، يُنادي باسمي في
الريح فلا جدوى . فلغاتكِ قد قتلتني . لم تأكلني الأمراض ولـم
يذبحني السيف ُ وما حاصرني الماضي بالدعوة للبحر الفاضـح.
يطلع من بين لغاتك جسد عار يفتحُ باب َ القبر الى باب الـدار
يناديني ، فأشيخ سريعا ً وأنا بين طفولة اسماء صباي، ويدعوني
تفاحا ً مّرا ً ، يدعوني فأجوس المنفى: منفى الرمل و منفى القبــر
ومنفى المدن الموءودة باللامعنى حتى أصل الغيمات .
موت المعنى
اختارُ لموتي أسئلة ً من طين ، ومرايا تفضحُ أجسادا ً من
قطن، ومعارك لم تحدثْ. وأناورُ في تدبيج مقالات تتستر في
اخفاء هزائم كلماتي كي أخرج محتفلا ً والناس ســـكارى
يرتجفون.
اختار لموتي عنوانا ً ورسائل خالية إلاّ من خيبة أطفالـــي،
ودراهم كاذبة، سيقانا ً تلهبُ أغنيتي الدرداء. وأختار لموتي
معنى، وأضمّخه بالطيب وأنشره في السرّعلى أكتافي.وأهاتف
أنكيدو القابع في أعماقي: ان أمرأة الغابة توقظ فينا تفـــاح
الصبوات وتقتل طلع الرب حذارِ. أشاورُ كلكامش ليلا لنؤسس
مكتبة لحروف الحق ِ، الحب ِ، وحاء ِالشعراء المنسيين.وأختار
لموتي مأساة وأؤسس سينا ً أخرى لا تدخل في كلماتِ اليأس ،
السور، السجن، سلام الرعب، سقوط الاسنان. وأختارُ لموتي
ريحا ًوعواصف من قلق وأحاكمه وسط شواطيء لايتعرّى فيها
غربان الكلمات المنخورة، ألقي القبض عليه وأدفنه في الارض
واختار لموتي موتا أبهى، أكثرطولا وشبابا.أختارلموتي راقصة
وأكون الطبّال فهزّي هزّي. أتعبنا ان الزمنَ الموحشَ باع الريش
هنا في حانات المنسيين، فهزّي، الناقدُ مشغول بدراهمه والشاعر
صار مصففَ حرفٍ في مطبعةِ السخفِ الكبرى . اشتدّي
رقصا. صرخ النحوي بنـا: غلط غلط، فصرخنـا بالنحوي
الصارخ: غلط غلط . وسكرنا حتى نمنـا في وحل الشارع،
واشتدّ بنا قلقُ الرئتين، مواجع ُعينين ارتبكتْ في ظلمات الارض.
أقمنا مأدبة لخطايانا، عاشرنا انفسنا فيها واشتقنا لسرير الحب
وتهنا. كان اللهُ يراقبُ خيبةَ أخطاءِ الجسدِ الفادحة المعنى . هزّي
هزّي. صرخ الضائع ُ من أقصى الارض بحرف السين فقال لنا:
قتلتني سينُ الاسئلة المذعورة والخبز الحافي والاطفال البردانين،
فلا جدوى من كلمات النورِ، لغات المعنى. فاشتاقَ الى قتل الرئة
الثكلى، قال لنا: سأكون التابع والكلب القابع . هل من عظم ٍ
للضائع وسط السين البائع فجر الكلمات بخبز المسلولين؟
سقط َ الشعراءُ على سين الحرف اختاروا القتل على هيئــة
أحجار وانتشروا في دغل الكلمــات. اخترتُ عداءَ الضائـع ِ
والحرف النائم في معجمه . هددني . صار الضائع يهجوني حتى
يطفيء نار الغضب المسعور ، فأضحك أجتاز دواليب العثرات.
ومن موتي الاسود أبعثُ كلمات ِ الحب ِ لأشجارالفقراء يجي الردّ
عنيفا: لاجدوى! انتبهي: أختار لموتي حرفا ً. ليكن ْهذا الحرف
الميم . نمزّقه حتى يتكوّن ثانية من غير دماء يابسة ٍ وكلاب
تسعى . ليكنْ هذا الحرف الواو، انتبهي سخف لا حدّ لــه
ياسيدتي ! أتعبني دوري ، كنتُ الملك العادل وسط الاتبــاع
الفرحانين المملوء بحكمة أجدادي. صرخ المخرج وسط الحفلة:
قف! هل جددتَ اجازةَ سوق السيارة؟! اتعبني دوري، كنتُ المتأمل
في صفحاتِ الارض أحللُ تاريخا ً أستجلي أسراراً. صرخ المخرج:
قفْ ! هل تقدر ان تجعل حرفك يخرج ( بالمقلوب )؟! وكنتُ
العاشق، سيدتي الباء لها ثدي من عسلٍ وفم من خمر اللذة ، لحن
مسرّات ٍ. صرخ المخرجُ وسط سرير الحب: وهل تقدر أن تنبح؟!
كنتُ الطفل فلا جدوى من تهديدي . أشجاري خضر وثماري زاهية
كأغاني الجبل الابيض . اخترتُ القهقهة البيضاءَ فلا جدوى مــن
تهديدي . جاء المخرجُ ضيّع معنى الأم وألقى القبض َ على أســرار
أبي، فأبتهل َ الجسدُ القابعُ في َّ. وأيقظني المخرجُ من نومي كــي
أنظر موتي فبكيتُ . انحسرت ْ لغتي . أرسلتُ رسائل عاجلــة
للأنكيدو ، الكلكامش . عاط النحوي بنا: غلط غلط . ركــب
النحويُ الضائعَ في الدهليز المظلم . فأنطفأت ْ لغتي . واقتــربَ
الموتُ حثيثا من باب البيت، فأغلقتُ البابَ ، تسوّر محرابي فـي
منتصف الليل وقال بأني الموت فلا مهرب. أضحكني ســخفُ
الموت ِ، فقلتُ: أنا أهرب؟! هل يهربُ شيخ أعمى من موتكَ يا
هذا المتسوّر محرابي، ياهذا المتسوّر محراب الله؟!
خسارات
(1)
خساراتي لم تعد تـُحْـتـَمل
فأنا أخرج من خسارة لأقع في أخرى
فأنا – على سبيل المثال –متّ
متّ منذ زمن طويل
وشبعتُ موتا
وحين قررتُ أن أقوم من موتي
لابسا ً الأخضر بدل الاسود
وراكبا ً الغيمة بدل الدراجة الهوائية
صدمتُ بفساد الغيمة
وتمزقّ ثيابها الداخلية.
(2)
خساراتي لم تعد تـُحْـتـَمل
دخلتُ في النار واحترقتُ كما ينبغي
وحين قمتُ من رمادي
وجمعتُ رمادي
وذرّيته في دمي كي لا أموت من جديد
صدمتُ حين عرفت
ان مَنْ القاني في النار
أصدقائي الذين أعطيتهم نور الأخضر
وأحبـّتي الذين منحتهم شمس الغيمة.
فارتبكتُ لأنني لم أهيىء نفسي لدور الفادي
ولم أكن أتصور أن دور يهوذا
سَيُعاد عرضه في كل مكان بنجاح ساحق.
(3)
خساراتي لم تعد تـُحْـتـَمل
صرتُ أقلـّبُ أسماء المدن
فأجدها متشابهة كالموت
وأقلـّبُ أسماء الأزمنة والأمطار
والجروح والصواعق والنساء
فأرتبك
لأنّ جسدي الذي قام من موته عشرات المرات
وقلبي الذي قاوم العاصفة والدم والذهب
بكيا أمامي كطفلين يتيمين
واشتكيا لي من ضياع الحلم
بل صرخا من ضياع الحلم
وخرجا كمجنونين في الشوارع
فما الذي سأفعله سوى أن أعلن:
خساراتي لم تعد تـُحـْتـَمل
لم تعدْ.. لم تعدْ تـُحـْتـَمل
ولذا سأعلنُ عن ترتيب الأنهار
لأجعلها تذهب من الجنوب إلى الشمال
لأخفف من آلامي ،
سأعيدُ ترتيب الغيوم
لأجعلها تسافر بالرسائل البريدية
لأخفف من عري طفولتي،
سأعيدُ ترتيب الدموع لتكون أكثر غموضا
حتى أعالج حنين منائري الذهبية
فلا يلحظ بكائي أحد
ولايشمت فيَّ أحد.
غزل على طريقة فان كوخ
(1)
لأجل أن أشمّ عطرَ حرفكِ المطلسم
الذي يشبه عطر عشتار و بلقيس
فإنني مستعد أن أنبش بقلبي
مكتبة آشور بانيبال
وأرتدي درع َ نبوخذنصر ومعاركه الغامضة
وأصف للفقراء والمساكين
مزايا قوانيني: أنا حمورابي العظيم .
(2)
لأجل أن أشمّ خفايا حرفك اللاذعة
فإنني مستعد أن أضيع
كقبيلة يقتلها العطشُ في الصحراء
كمدينة يمزّ قها زلزال مفاجىء
كسحرة يأكلُ بعضهم بعضا.
(3)
لأجل أن أشم ّخفايا حرفكِ البضّة
فإنني مستعد أن أهديك أذني
كما فعل فان كوخ
وأن أبكيكِ العمر كله
محاطا ً بالنسور والصقور والثعالب
كما فعل غويا
وأن أترك الحوت يبتلعني
كما فعل ذو النون
وأن أضيّع قائد جندي الى الأبد
كما فعل داود.
(4)
لأجل أن أمسك جمرة حرفك
التي تملأ الكفّ
فإنني مستعد أن ألقي بنفسي
في النهر
كأيّ مراهق يحبّ لأول مرّة
ويجنّ لآخر مرّة.
غزل حروفي
(1)
هذي المرّة
لن تكوني مثل كلّ مرّة
امرأة من لحم ٍ و دم
فلقد تعبتُ من دمك العاري وجحودك الأسطوري
من خيانتكِ التي تشبه مشنقة دون حبل
وتعبتُ أكثر
من انتقالاتك المرّة الحامضة بين البراءة والذنب
ومن أغنيتك: أغنية الكأس والسكين
ولذا
هذي المرّة
ستكونين امرأة من حرف
أخرجكِ متى أشاء
أمام جمع الوحوش
بيضاء من غير سوء
بيضاء لذة للناظرين .
(2)
عسى _
حين تكونين حرفا –
أن أمسك طير الفرح بقلبي
بعد أربعين قرنا من الطيران الأعمى
عسى
أن ألتقي نقطتي فألتقط منها
طلسما للحب والطمأنينة
وألتقي هلالي فأراهُ يركض نحو العيد
بدشداشة العيد
وعسى
أن ألتقي دمي
فلا أجده أسود
ككفّ قـُطِعَ منها الابهام .
(3)
هذه آخر محاولات جغرافيتي الممزقة
وتاريخي الذي يشبه معناي الذي لامعنى له
هذه آخر محاولات الطفل فيّ
وآخر محاولات الساحر فيّ
والمجنون والشاعر
والولي ّ
والزاهد والراكض من بحر لبحر
هذه آخر محاولات دمي:
أنتِ الآن امرأة من حرف
لادم عندك ولا لحم
لامؤامرات، لامكائد، لادسائس
لاهرطقات،
لانزوات
لا و لا .
(4)
أنتِ الآن امرأتي
وشمعة داري !
محاولة في السحر
الى: د. بشرى موسى صالح
(1)
في ظهيرة تموزية
جلستُ تحت سن الشمس
فطحنني الحرّ حتى ابتلت ثيابي
وقلبي و أصابعي
وسقطت من عيني دمعتان
انقلبتا، بقدرة قادر، الى ساحرين
ثم سقطت دمعتان
فصار السحرة أربعة
تحلـّـقوا حولي بهدوء
( لمَ تبكي؟) سألوني بصوتٍ خفيض
قلت لهم: أتعبني الشمس
وسلّ قلبي مرآى الجمال
أنا المحروم حد اللعنة
وعذبني الجوع
والرغيفُ هنا مغموس بالدم
وأثقلني الفراتُ بالندم.
قال أولهم: أنا من الهند
أستطيع أن ألبسك ثيابَ الذهب.
وقال ثانيهم: أنا من اللامكان
أستطيع ان أطير بك من غيمة الى غيمة.
وقال ثالثهم: أنا من عاد و ثمود
أنا من يعطيك سرّ اللذة.
وقال رابعهم: أنا من الصين
أنا من يجعل الحلمَ باب اليقين.
قلتُ لهم: عجّـلوا عجّـلوا
فلقد دفنني الحرمان
كما يدفن الزلزال
جيشا ً قوامه ألف فارس.
(2)
في اليوم الثاني
جلستُ مرتديا ثياب الذهب
وتحت قدمي غيمة صغيرة جميلة
و امرأة أحلى من العسل
وأصابع كفّ تجعل الحلمَ – أيّ حلم –
بابَ اليقين.
(3)
لكن الشمس اذ توسّطت السماء
ذابتْ خيوط الذهب
فبدتْ ثيابي مهلهلة
وذابت الغيمة ُ الصغيرة الجميلة
فبدتْ قدمي قبيحة
وذابت امرأة ُالعسل
فبدتْ شفتي مرّة ً كالسمّ
وذابتْ كفّ الحلم
حتى تحولتْ الى أصابع هيكل عظمي
فصرختُ: يادموعي يا أخوتي يا أصحابي
أين أنتم؟
أين أسراركم واشاراتكم؟
(4)
صمت السحرة ُ الأربعة
لكن رابعهم أشفق على قلبي المحطّم
كمرآة أعمى
قال: أتريد الثبات لا الزوال؟
قلتُ: نعم.
قال: لاسبيل الى ذاك المقال
الا ّ اذا تلمّستَ شيئا ً من روحنا
فأومأ الثلاثة ُ بالايجاب.
ثم قام أولهم عاريا ً من كلّ شيء
قال: سنفعل
سنعطيكَ حروفنا أيّهذا المُعـَذ ّب
ونعلـّمكَ نقاطنا أيّهذا المحروم
لكننا نخاف إن تعلـّمتها
أن تسخرَ من الذهب و ثياب الذهب
أن تسخرَ من البلدان
أن تسخرَ من الأثداء و السيقان
أن تسخرَ من الأحلام
فتكون مثلنا فارغا
باردا
ضائعا
عاريا ً للأبد.
محاولة في القهقهة
(1)
جيمُ الجثة والجوع والجلجلة
غريبة على الواقع
عصيّة على التصديق.
ومع ذلك، فنحن هنا، للحديث عن السين
سين سلام الموتى
سين سقوط الأسنان
سين الأسئلة التي تبدأ لكي لا تنتهي.
ونحن هنا للحديث عن القصيدة
التي لم يكتبها الشاعر
بسبب السأم وجلجلة الجيم وصليل الأسئلة
وقبح الوجوه التي يلتقيها
لا سلام،
لا تحية، لا صباح الخير
لا توجد غير لا ولا ولا.
والجيم تنمو، تتوزع في الشوارع
والوجوه التي أدمنت اللا أمل.
هل اللا أمل ممنوع؟
انكسر السؤالُ ودخلت ُ في الجلجلة
لا شأن لي بما تسألون
لا شأن لي إلا ّ بما يكتب الشاعر
في حروف دمه
لكنهم سرقوه:
رجال من الشرق سرقوا أصابعه
ثم أعادوها إليه
دون إبهام وسبابة،
رجال من الغرب سرقوا رأسه
ثم أعادوه إليه
دون عينين
دون أنف وشفتين
فكيف سيكتب قصيدة حبه الكبرى؟
كيف سيزرع السين فتزهر قافية من حنين
تزهر أطفالاً ومواعيد حب؟
كيف وهو في الممرات ضائع:
لا صباح الخير، لا مساء الخير،
لا تحية، لا طمأنينة،
لا ولا، سوى القهقهات.
(2)
هل سمعتَ بميكائيل أنجلو؟
هل سمعتَ بفان كوخ؟
هل سمعتَ بالسياب الساذج؟
هل سمعتَ بالماغوط المغفل؟
هل سمعتَ بما لا ينبغي أن تسمع؟
لكنني كنتُ أضحك حتى أبكي
وأبكي حتى أموت
ثم أولد كي أبكي ثم أموت.
(3)
من أنتم – قال المقهقه – رجال من الشرق؟
إذن: أعيدوا إلي إبهامي وسبابتي
من أنتم؟ - قال المقهقه – رجال من الغرب؟
إذن: أعيدوا إلي رأسي الفقيد
أعيدوا عيني، أنفي وشفتي
أعيدوا أعيدوا – أنا السياب –
أعيدوا إلي ماء بويب
وغيلان، أين غيلان؟
وعصاي التي أهش بها على وحشتي؟
وأعيدوا إلي لحن قصائدي – أنا الماغوط –
ملحن البارات
وملحن أناشيد الاندحار
ومايسترو القوافي الجبانة.
ومع ذلك، فنحن هنا
لا للحديث عن القوافي ولا البارات
لا عن بويب ولا غيلان
نحن هنا للحديث عن الجيم
والجيم جثتها باقية أحملها كل يوم
أنا الحلاج حلجتكم بيدي
أنا النفري النبي
أنا دعبل، والشريف الرضي، لكنني..
فمن أنتم أيها الأصدقاء القدامى الجدد؟
كيف سنتفاهم بالشعر
ونحن نركض خلف جيم وسين
وبينهما النون عارية كالمتاهة؟
إذن: السين سيدة الموت تغسلكم في النهاية
والجيم ضاعت
بنقطتها عنوان بيتي القديم
وعنوان بيتي الجديد.
ومع ذلك، فنحن هنا للحديث
لا عن الجيم ولا السين
نحن هنا للحديث عن القهقهة !
*****
الشاعر محمد الماغوط يخاطب الشاعرَ السيابَ في قصيدته:
(إلى بدر شاكر السياب) المنشورة بديوان ( الفرح ليس مهنتي) قائلاً:
تشبثْ بموتك أيها المغفل
دافعْ عنه بالحجارة والأسنان والمخالب !
أنا وأبي والمعنى
سقط َ الساحرُ من مائدةِ السحر على الأرض.
فتمزّق صوتُ الماءِ بكفـّيه، بكى، واهتزّ كما يهتزّ الطائرُ
حين تمرر سكين الذ بح على الرقبة.
الارضُ تكرر لعبتها. ماكنتُ أكون. الغيمُ يجيء و يذهـبُ
والفجرُ يطرز حرف الدهر فلا معنى أبداً.أختبىء اليوم كطفلٍ
أرنو للفجر أقرر أن أبعث كلماتي حتى يعتدل العالم، يذهب
سيف الظالم في الظلمات. فما أحلى الكلمات ! وما أسخفها !
سقط الساحرُ . كانت امرأة الساقين الفاتنتين تهدهد...
لامعنى لاعادة مشهد حب مكرور ملتهب ، لا معنــى.
المرأة واقفة خلف الشباك وخلف المكتب، خلف زجاج الباص
وما من شيء ينقذها. سقط الساحرُ من مائدة ِ الفعل ِ، فعضّ
يدي قال: سأقتصّ من الظالم ِ. هددني بعيون الجمر، تقــدّم
من دائرة ِ السيف ِ واطلق جمع َ طيور ملأتْ جوّ الغرفــة
بالهذيان .
اكتشفُ اللحظة ان الساحر مسحور ، ان الســاحر يبكي
كالطفل..
نظر الساحر لي قال: بأني الطفل
فتعجّبتُ من القول
ونظرتُ الى لغة الفجر فكانت سوداء .
قام الساحرُ بالرقص، اختط ّ لنا أرضا ً تكفي لكلينا قـال:
هنا نرقص ـ واختطّ بجانبها أرضا ً أصغرَ - وهنا سـنموت
علينا بالرقص لأن المرأة شيء باطل
والطفل كذلك ، والسيف قويّ ، والمعنى مكتنز في الرقـص
فارقص !
أخبرتُ الساحر َ: إني أعمى لا أعرف إلا خيطا ً من ذاكرة
الفجر وأخفي في كفّي وشما ً لامرأة عارية ماتت منذ سنين.
غضب َ الساحرُ من كلماتي وافرنقع مني ، قال بأني كــذ ّاب
خرف . أخذ الساحرُ بالرقص فهب ّ الى الساحة مدفوعا ًبسهام ٍ
وأغان ٍ زرق ٍ وشموس حمر. واهتزّت ذاكرة ُ الغرفة حتى غضب
الغيم وأمطرت اللحظة ُ وقتا ً مدفوعا باللاشيء. افرنقع غيمُ شتاء
الروح . اشتد ّ المطرُ البريّ. نظرت ُ الى ماحولي عليّ أتلمّس
شيئا ً: الغرفة فارغة كالموت. الساحرُ مشغول بالرقص. الطائرُ
في جوّ الاسطورة ينمو . هبّتْ ريح طيبة فتذكّرتُ المرأة تأتي،
تأخذني لفراش الحب، تؤدب أوجاعي، وتذكّرتُ الطفل يحلـّـق
في النهر تذكـّرتُ السيف َ رجالا ماعرفوا إلا الكذب الأسـود
وعوانس من سخف ٍ و خيوط ٍ من لحم و دم . فصرختُ: أبي..
هلّ أبي كهلال العيد بطير النورس مؤتلقا ً. واشتدّ المطر البريّ.
افرنقعت الغيمة ُ واهتزّ جدارُ الغرفة ثوبا ً في الريح . الساحرُ
يلعبُ ، لم يتعب من رقصته ، وخيوط ُالعرق المصبوب على
الجسد العاري هبطتْ. كنتُ أحسّ بأني أ ُقـْتــَلُ هذا اليوم وأنـّي
سأغادر ساحة رقص الساحر متجها بهدوء نحو القبر المرسوم
على الارض. المطرُ قويا ًيشتد. الغيمة ُ تعصفُ تعصفُ تعصفُ.
جاء أبي ، هبط الساعة من سقفِ العالم. كان أبي يتألق شمسا ً
للفجر .
صرخ الساحرُ في وجهي: ارقصْ. قلتُ بأني أعمى.
ضحك الساحر ُ، قهقه ثم ارتجف الساحر حين تألق وجهُ أبي في
الغرفة . أمسك بالعين الجرداء فأحياها. أمسك بالأذن الجرداء
فأسمعها، أمسك بي. اشتد ّ المطرُ فخفت ُ على ثوب أبي الابيض
أن يتسخَ. وقال أبي: لاتحزنْ انكَ في عيني . فبكيت ُ، نظرتُ،
رأيتُ الفجرَ لأول مرّة.
ووقعتُ على كف ّ أبي لأقبّلها. والغيمة ُ تعصف ُ عصفا.
وبدا ان الارض َ ستغرقُ. قال أبي: لاتحزن ْ هذا مطرُ الفقراء
أنظرْ فنظرت ُ العشب َ بقامةِ طفل.
التعليقات