أوروبا سمعنا من الإغريق أنك ابنة أسيا
اسمك الآن أصبح رمزا للعقوق
واوك تمشي إلى الوراء
وباؤك أول حرف في وباء
*******
أوروبا
جلبنا الرز الذي سقته ينابيع الهملايا
وجلبنا لك العنبر والدمقس والحرير
وكنا، إلى فترة أصبحت بعيدة، نأمل منك خيرا
******
أوروبا
ما من نابوكوف يلهج باسمك
أو.. رو.. بتحولات الفصول والأمزجة.
ولم نعد نفتخر بأننا نمشي على
أرصفتك ونحن نلبس أحذية من جلد الموكاسين
همنغواي وجبل الجليد العائم الذي لا نرى
إلا قمته
بكاميرا الشاعر نفسه
********
عبثا نبحث في ضوضائك المزعجة
عن صوت اسمهان
عبثا نبحث في متاحفك ذات الهواء الفاسد
عن بلقيس
وسليمان والهدهد
*********
المرمر في أروقتك يتحول لونه
إلى لون طيني
وذهبك نشارة خشب أفضل
لونا منه.
*********
إنك كسمك القرش، يجب
أن تبقين في حركة دائمة
وإلا توقف قلبك عن الخفقان.
**********
إنك تستغلين كل فسحة من الأرض
"أحسن استغلال " رنين الفلس
أجدى، بالنسبة لك، من هدير
الأمواج. والعمارات أنفع من الأفق المفتوح
لا تتركين فضاء إلا وتملأنيه
قانون باركنسن قانونك
**********
لماذا يا أوروبا
تخافين من الهوة وأنت التي أنجبت
باسكال
ترتعد فرائصك أمام الامتداد الصحراوي
تشخطين على علائم الاستفهام.
************
غرورك لا يحد
وتريدين العالم أجمع أن يرى نفسه
من خلال مرآتك أنت.
*************
أوروبا
شوارعك تطبق على نفسها
وأبناؤك في أروقة القطارات الجوفية
يخفون هزائمهم وراء الصحف
والانشغال بالقراءة، وكلما
رأيت أفقا أغلقتيه بقامات
ديناصورية من الأسمنت والقصدير
************
لقد نشف الدم في عروقنا ونحن نحاول فهمك
يا أوروبا
الأليف أول حرف في الأبجدية لا ننكر ذلك
ولكن الواو أبعد ما تكون عن الوعول
والراء تبحث عن رواد جدد فلا تجدهم
**********
قوسك بائس
وانحناءة بائك الباروكية تبعث على الكرب
**********
قيل بأن الكبار من أبنائك
جياكوميتي وبيكيت
لا يتألقون إلا في حالات العتمة
والغروب الرمادي!
**********
وكلما نصحتي بالسفر إلينا
تحذرين من أمراض البلادة الحارة
توصين أبنائك بالتلقيح
ضد الأمراض السارية والسراق
في الأسواق المزدحمة.
*********
ألم تري كيف دخل النور إلى لوحات
أوغست ماكه وبولي كلي
وكيف أصبحت ألوانهم ترقص من الفرح
في الحمامات والقيروان
**********
إنك ميالة بطبعك إلى النسيان
والتناسي
تحللين لوحات ديلاكروا في الجزائر
تشيرين، نعترف، إلى حرارة
الألوان فيها
ثم تنتبهين إلى سجنك الأثير
وإذ تستعذبين الألم فيه
ترمين تحت البساط ما عداه.
**********
تجملين صورتك لابنائنا
يأتون إليك بوعود وعهود
ثم يعتريهم الذبول
وتهد حيلهم القشعريرة ويباغتهم الصرع
والسكري وضغط الدم
**********
لك مقدرة عجيبة على تهميش
الكائن دفعه إلى زاوية صغيرة، رأيته
ورأيت نفسي
شبحاً
فقد تورده والقه
ولسان حاله يقول: لقد حان الوقت يا هذا
اتجه صوب الشرق يا هذا
**********
متاحفك سجون
وسجونك متاحف
عورتك أكبر من أن تخفى
وكلابك المدللة سخرية حضارتك
المدلسة
***********
إن آسيا بريئة منك يا أوروبا
ومن الأفضل، من الآن، أن تسمي
نفسك نيكروفيليا
**********
ولعلك بالستائر والخفايا والأسرار
لا حد له
وطبعك حجب الضوء
ومحاصرة الابتسامة
كلما رأيت مسقطا
للضوء، مررته في أروقة
تصغر وتصغر حتى ينعدم
*********
تشيرين إلى الحسن بن الهيثم
في جملة عابرة وتفردين
صفحات طويلة لمن هم أدنى منه
في المنـزلة
******
لم نقرأ كتابك جيدا يا أوروبا
في الماضي، وفي لهفتنا عليك
ولم نتساءل بعمق عن حقيقتك
********
لا "الأرض الخراب" منعتنا من الهرولة إليك
ولا كلب جياكوميتي
ولم نفهم يومها ملاحظة نيتشه
بان أول عمل قام به أبناؤك في
أسبانيا الأندلس هو
إغلاق الحمامات العامة.
*********
أقول لكم منذ الآن
رجحوا "فلسفة البؤس"
على "بؤس الفلسفة"
وإن برودون وباكونين أقرب الى النفس من ماركس ولينين
**********
هنا اكتشف بأنه منذ ما قبل التاريخ
وهو يعاني من تأنيب الضمير
لانه تنكر للنخلة
وسحق ذات يوم
نملة
*********
في "الدار البيضاء"
رأى الأعاصير والأمطار
والبرق
تهز بيت فوزي البربري
وهو في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل
بدأ يتألق واستبد به الأرق
وانحلت عقدة لسانه.
**********
كان ذلك يوما من أيام القيامة
كل شيء يتحدث له الآن
بما في ذلك الكراسي والأقداح
والشاي المطيب بالريحان
وكلما ضاقت به السبل
اتجه إلى البحر اللانهائي
أزرق واسود ولازوردي وفيروزي
طبقات متتالية
وهناك الرمال المغسولة بماء البحر
رأي نفسه أكثر من مرة
وهو يلتهمها
*********
هل من يشفق على الروح اللائجة (1)
ويطيب ثراها هنا
********
يتيم ذو مخيلة بصرية
قامته تزداد تقوسا
لا داعي لان نقول بان الأسباب
إياها
يرى نفسه ولا يرى تمثال
المفكر لرودان،
هذا إذا أراد أن
يعطي لنفسه هالات بطولية
*******
يغتبط الآن
لان البحر اللانهائي
يفصله
عن أوروبا
ويرى بعض الأحيان
أنهم يجيئون من وراء البحار
لإعادته إليها.
(1) يلوج باللهجة التونسية تعني يبحث
**********
البحر المتوسط مسافة الآمان
كتب اسمه وشاهد قبره
على الرمال
ورأى الأشنات
وقد مشطتها بعناية أمواج البحر
كلبدة الأسد تذكرها
وهو يتمشى بحذائه المطاطي
على الشاطئ
**********
في المرة القادمة
سيمشي عليه حافيا
**********
اخوتي في الشمس والضوضاء
والنارجيلة وهي تبقبق
باب المقهى واسعة
والضوء يقترب بعبائته الفضية
لا يريد أن يحدد حريتك
إنه هنا من أجلك
ومن أجل هولدرلن
**********
اكتشف هنا ثمرة البسباس
نكهتها الزحلاوية
تلتصق به بدون أن يلمسها
هي أعجوبة الأعاجيب
يصنعون منها في فرنسا شراب
"الأنيس "
هي وحدها مبرر كاف
لقطع القارة والبحر المتوسط
وإذا عنّ به الشوق إليها
هناك باخرة باسم " حبيب "
وباخرة باسم " طارق بن زياد "
تقله إلى بوابتها الجنوبية مرسيلية
وفي الطريق البحري إليها حذروه من
العرب وقالوا له أن يتعامل فقط
مع الغاورية (2)
في مدننا العربية بدأنا باكتشاف
أكاذيب رجالك الكبار يا أوروبا
جياكوميتي أعلن نفسه
رحالة يعيش في المؤقت والعابر
ولا يريد أن يملك شيئا
إلا أنه في الواقع عاش معظم
حياته في مكان واحد هو استديو واه
بودلير كتب اجمل قصائده عن الرحيل
إلا انه لم يسافر
(2) الأجانب باللغة العربية الشمال أفريقية
في مدينة عربية بدأنا باكتشاف
أكاذيبك يا أوروبا
وفي مدينة عربية أخذنا نبكي
على بعض رجالك يا أوروبا:
جيرار دي نرفال وهوسه
ببلقيس ملكة سبأ
واكثر من مرة في باريس رأينا البرج الذي
شنق نفسه عنده في ليلة ليلاء
هجرها القمر.
ارتو والمكسيك التي لم تشفه
من الجنون الذي التقطه في مدنك يا أوروبا
إنه شهيد حضارتك المريضة
يا أوروبا، شهيد حضارتك المريضة يا أوروبا
كان فتى وسيما على المسرح
قبل أن ينتبه إلى طواعينك العديدة
قبل أن ينتبه
يا أوروبا
وسيما على المسرح ولم يكن معنيا
ولا مصدقا بان الحياة ما هي إلا ظل يمشي
أو ممثل يتبختر على المسرح ساعة
ثم يختفي فلا يسمعه أحد
لا تنطفئي أيتها الشمعة الوجيزة
بالله عليك أيتها الشمعة الوجيزة
هناك متسع من الوقت ما يزال.
كتب نقراها
مدن نقبل ترابها
ونتحول إلى خطافات بين منعطفاتها
وجوه نطمح إلى لمسها
قامات بهية نركع أمامها
أمهلينا شيئا من الابتهال
**********
اسمحوا له أن يتمثل بايرون الأعرج
إنه "كالغراب الذي ضيع المشيتين"
يتنقل على غير هدى في حارات
الشرق وأزقته، ينظر بعيون
واسعة الاحداق محمومة
إلى معمارها ونقوشها
ونخيلها واشجار سروها
يحدق في الأبواب المفتوحة
والستائر التي تخفي ما في داخل البيت
من معجزات.
اسمحوا له بان يتشبه ببايرون الأعرج
قيل أنه أصيب بنكسة عصبية غير واعية
فأخذ يعرج من دون أن يعرف السبب
*********
يستنطق الأبواب المفتوحة
يتهدج يبتهل ينشج
وكلما مسك الورقة والقلم
قال هذه بالتأكيد ستكون
قصائد النـزع الأخير.
رسامات نرويجيان يجلسان في مقهى
الطرف
تقع على تقاطع وتطل على ساحة عامة
إلى يسارها يقع البحر رآه قبل أن
يجلس أخضر
يرسمان (النرويجيان) بالألوان المائية
مناظر تبدو عادية
هما سليلا أوغست ماكة وفرانز مارك
وبول كلي.
*********
هم بالتأكيد جاءوا إلى هنا
إلا أنهم، على الأرجح، لم يتحملوا
المنظر وعصف الروح
فعادوا إليك يا أوروبا
الداكنة
بحثا عن الاحتكاك بالعانة والسويداء
بحثا عن الفناء.
*********
ألا استفحل أيها المشيب
وعجل بساعة المغيب
********
آه يا آخر قطرة إكسير
أسعفيني
ضعي يدك الرحيمة على دقات القلب
أسكتيه
داريه
حني عليه
*********
في ساحة المقهى شجرتان
قطعوا أوراقهما وأغصانهما في الشتاء
لتنمو بشكل أكثر تشأببا في الربيع
والكراسي الزرقاء
ورجالات الحزب الدستوري القديم
المحاربون القدماء بملابسهم التقليدية
يجلسون هنا، يتذكرون الماضي
أو يكتبون وصيتهم الأخيرة
*********
ألم يقل لكم يوما
هذا الذي يضع الآن قلم الحبر والدواة على طاولة يريد لها أن
تكون مساحتها خالية تماما إلا منهما. ألم يقل لكم
إن الحنين المجهض
لن يستطيع أن يشرب البحر من العالم
**********
كعادته كل صباح يتخذ الطريق
المحاذي
إلى هذه المقهى في الساحة العامة
وهناك ساعة كبيرة
تخبر الناس عن الوقت من جهاتها الأربع
ذكرته بوصف لوتريامون
لخدود الأطفال
بيضاء
وعقاربها سوداء كيوم الحداد
**********
تلك كانت أمه ترفض أن تلبس
الثياب الملونة بعد موت
الأب بعشرين سنة
كان قاسيا وهيدونيا ومبذرا
باع ذهباتها وسجادها الكاشان الإيراني
وقطعة الأرض التي اشترتها
للأيام السود.
وكان يخونها في فنادق طهران
وقم وكرمنشاه
ومع هذا أصرت على أن تلبس
الأسود إلى الأبد.
لعل روحها انتقلت إلى عقارب
الساعة السوداء
وكلما انتقلت من ثانية إلى أخرى فاضت الروح المنبجسة
وانصرفت تبحث عن خطاها الضائعة
**********
يا أيتها النملة
إنك أكبر الفلاسفة
تدبين لوحدك
يا أيتها الريشة البيضاء
التي تستكين إلى حافة الرصيف
أنت الأمل
وأنت الفلسفة
وأنت ذؤابة الروح الهالكة
***********
سأله عارف ذات يوم: ما الجمال يا فاضل
قال له الجمال قيد يا عارف
وسكت
***********
وأنت يا أوروبا
ماذا تفعلين غير أن تبددي جمالك
في حارة السقائين
وتمنحين كنوزك الطافحة بالتبر
والأشنات
لعابري السبيل.
دقائق من الاتصال ثم يهبط الصمت
على مصاريعك
وتهاجر الروح إلى مكان آخر
ولكن إلى حين
***********
ولم لا؟:
" أمانة عليك يا ليل طَوِل وهات العمر من أول ".
***********
يا بلادي
أحب نفاياتك
قططك الهامشية
بناتك اللواتي
لا يعرفن معنى الاستهلال
ويطلبن من الذكور
أن يتجهون مباشرة إلى بيت القصيد
ولكن لابد من أن تكون الخاتمة
طويلة.
تونس / مدينة الحمامات 1997
الشاعر العراقي فاضل عباس هادي ينظر إلى كاميرته المهيأة...
الصورة والقصائد خاصة بإيلاف ممنوع اعادة النشر
التعليقات