قصي صالح الدرويش من كان: دخل مهرجان كان السينمائي الثامن والخمسون في حمأة أحداثه أو في قمة حرارته بعرض فيلم وودي آلان "نقطة مرجّحة" بالإضافة إلى برمجة الفيلم الأميركي الآخر "الأيام الأخيرة" لجاس فان سانتGus Van Saint في العرض المسائي للصحافيين والذي يسبق عرضه الرسمي بيوم، وبوجود فيلمين لمخرجين كبيرين أولهما يرفض أن يشارك في أي عملية تنافس، حيث تعرض أفلامه كمجوهرات أو كتحف خاصة، والثاني كان مفاجأة المهرجان قبل عامين حين فاز فيلمه «الفيل» بجائزة السعفة الذهبية. وكان جمهور المهرجان قد شاهد وباهتمام الفيلم الكردي ـ الفرنسي "كيلومتر صفر» للمخرج هينر سالم ، ويتحدث فيه عن معاناة الأكراد في عهد صدام حسين، حيث يروي قصة الشاب أكرو الذي يحلم بالسفر إلى أوروبا بعيداً عن القمع اليومي للجيش العراقي وللعرب العراقيين، الذي يلون حياته وحياة الأكراد بالمرارة، لكن زوجته الجميلة سلمى ترفض هذه الفكرة، لأنها لا تستطيع أن تتخلى عن والدها العجوز المريض الذي لا يستطيع أن يغادر فراشه.
يبدأ الفيلم في فرنسا حيث يوجد البطل في سيارة، تتحدث إذاعتها عن العراق ناقلة عن إحدى الشخصيات نقده للانتقادات التي تتحدث عن الدور الأميركي في العراق، قائلة : المسألة ليست إننا نريد الولايات المتحدة، ولكن هل حاولت أوروبا والدول الأوروبية تحرير العراق من نظام صدام حسين؟ ثم تنتقل الكاميرا إلى العراق، إلى ما قبل عملية تدمير حلبجة وقتل أبنائها. ففيشباط(فبراير) 1988 ووسط الحرب الإيرانية العراقية يقدم الفيلم نماذج من المعاملة السوريالية التي يقوم بها الضباط العرب العراقيون مع الأكراد والقرى الكردية، حيث لا يوفرون أي طريقة في إهانتهم، وضربهم، وقتلهم وبشكل عنيف وعنصري وغبي بالطبع. النماذج التي يقدمها الفيلم وعلى فظاعتها تبدو اريكاتيرية؛ إذ إنها تخرج عن أي منطق سوى منطق العبث والجنون والظلم طبعا. ومن بين هذه النماذج نتعرف الى الشاب أكرو الذي ينجو من الموت، من دون أن ينجو من الإهانات المتكررة التي لا يجد أي تعليق عليها سوى «شكراً سيدي» وهو يخاطب الضابط العربي الذي يهينه. ومع فشل محاولاته المتكررة لإقناع زوجته بالسفر وترك والدها يواجه مصيره وحيدا، يجد نفسه مساقا إلى الجندية، إلى الجبهة الجنوبية بالقرب من البصرة، وهناك لا تختلف معاناته فالعنصرية والإهانات موجودة ومستمرة دائما معه ومع زملائه الأكراد المجندين في حرب تبدو عبثية، وخصوصا صديقيه الكرديين سامي وعدنان. وتختلط السوريالية بالكاريكاتيرية في المشاهد التي تتوالى ومن بينها رفض سامي الجري مع العسكر تنفيذا للأوامر، لأنهم سيعودون من حيث بدأوا. أو حين ينحني أكرو في الخندق حين تشتد المعارك ويرفع رجله في الهواء لكي تصاب، ويحصل بذلك على تسريح طبي من الجيش• لكن همومه تتوقف فجأة حين يتلقى أمرا بمرافقة جثمان شهيد إلى أهله فينطلق مع سائق سيارة عربي وعلى ظهر السيارة الجثمان في رحلة غرائبية، تجمع بين الحرية بعيدا عن المعسكر والقيود التي تفرضها العسكريتارية على امتداد الحواجز التي تقفل، وتفتح طرق البلاد. في هذه الرحلة تتوازى وتتداخل علاقات أكرو سواء بين حريته المشروطة بتنفيذ مهمته والعودة خلال ثلاثة أيام، أو بينه وبين شريك رحلته السائق العربي الذي يكره الأكراد، أو بين زيه العسكري الذي لا يطيقه وبين مشاعر الغضب والكره والرغبة في التمرد، أو بينه وبين الجثمان الذي يرافقه وعدم الرغبة في إزعاج الأطفال (ربما أطفال الميت) الذين يلعبون في ساحة منزلهم، أو بين تعلقه بحلم السفر إلى أوروبا مع زوجته الجميلة وارتباطها المقيد بأبيها المريض. في سلسلة المتوازيات هذه يدور في فضاء لا نهاية له، متقاطعاً أكثر من مرة مع شاحنة كبيرة تحمل تمثالا ضخماً لصدام حسين. في هذا الفضاء حيث يتبادل مع سائق السيارة الكره المخبأ قبل أن يعلن عن نفسه في نقاش قصير محتدم، يتحول إلى عراك حياة أو موت قبل أن ينتهي إلى نوع من الهدوء والجدل؛ حيث يختبئ كل طرف منهما وراء قناعته الأولى. الحقيقة أن هذه الرحلة الواقعية ـ السوريالية كان يمكن أن تكون موضوعاً وإطاراً لتحفة فنية متميزة، لولا أن المخرج ظل أسير نظرة ضيقة حولت موقفه المعادي للعنصرية ضد الأكراد إلى موقف عنصري ضد العرب؛ فالعلاقة بين الجندي الكردي البائس والمتذمر وذلك السائق البائس بدوره والمتذمر كذلك من طبيعة وظروف الحياة كان يمكن أن تتحول من علاقة صراعية ميكانيكية إلى علاقة جدلية، يتحرر فيها كل منهما من ظروفه المركبة ليعود إلى وضعه الإنساني بكل الصفاء المتميز به، وهو ما كدنا نراه فعلا حين سأل السائق الجندي إذا كان عنده أولاد فآراه بطيبة وفخر صورة أولاده، وسأل الجندي بدوره السائق إن كان عنده أولاد فأراه صورة أولاده قبل أن يطلب منه عدم مشاهدة صورة زوجته لأن هذا لا يجوز. للأسف الشديد، هذه العلاقة لم تتطور في هذا الإطار مع أن كلا منهما محكوم بهمه وبحصار الحياة القاسي الذي لا يفرق بين عربي وكردي• فقد انتهت الرحلة بهروب السائق العربي بسيارته بعدما أنزلا الجثمان منها، بينما ظل أكرو يتخبط غضبا بالعلم العراقي، قبل أن يصل إلى قرار الهروب والعودة إلى منطقة قريبة من قريته، إلى قرية مهجورة بعد أن ضربتها الطائرات، ويقرر أن يستقر في هذه القرية بعد أن طلب من أحد معطوبي الحرب أن يذهب إلى قريته وأن يقتل والد زوجته مقابل ألف دينار، وأن يحضر له زوجته وابنه لكنه يفاجأ بالرجل يعود مع الزوجة والابن ومع والدها أيضا الذي حمل على سريره الذي ينام عليه• بين مشاعر الحب والجنس التي تشتغل بينه وبين زوجته الجميلة، وبين الحرية وشبه العزلة التي يجد نفسه فيها يقضي أكرو لحظات جميلة قبل أن تتكسر على ضرب القنابل التي تسقطها الطائرات العراقية على القرية. وقبل أن نجدهما أخيرا في باريس ومن وراء نافذة غرفة صغيرة تطل على الأسطح، غرفة يعبران فيها عن يأسهما الذي يتلخص بأن الماضي والحاضر بائسان وأنه ليس أمامهما مستقبل، قبل أن يعلن هذا المستقبل عن نفسه في نشرة الأخبار باسقاط نظام صدام حسين ما جعلهما يصرخان من النافذة وهما يكادان يطيران فرحاً، لقد أصبحنا أحراراً. المشكلة في الفيلم ليس أنه ركز الكاميرا على معاناة الأكراد، فقد كانت معاناة كبيرة بالتأكيد ولكن على تصوير المسألة بأنها قضية عنصرية، لا تقتصر على السلطة الحاكمة وضباط الجيش فقط، بل تشمل كل العرب العراقيين، وهو ما جعل المشاهد المبنية على منطق كاريكاتيري تبدو كأنها تعميم ميكانيكي يفتقد إلى الذكاء والدقة وبالتالي إلى الواقعية. والدليل على ذلك ما آلت إليه الأمور السياسية في العراق منذ ذلك الوقت، حيث انتخب للعراق رئيس كردي وحيث الأكراد ممثلون بقوة في الحكومة، وحيث تبدو علاقاتهم مع الأحزاب والقوى القائمة جيدة وجيدة جداً، على الرغم من بعض الإصرارات الكردية التي تبدو متطرفة نسبيا في نظر الآخرين. والحقيقة أنه بغض النظر عن هذا التناغم والتعايش السياسي ـ البشري، فإن المنظار الذي وضع فيه المخرج العلاقة الثنائية بين الجندي الكردي والسائق العربي هو منظار عنصري في النهاية، وكونه ينتقد عنصرية سابقة أو أخرى فإن ذلك لا يبرر عنصريته. من الناحية الفنية في الفيلم لقطات جميلة جداً لكن المخرج لم ينجح في إيصال رحلته إلى مستوى العمق الفلسفي الذي رأيناه في فيلم الإيراني عباس كياروستامي قبل سنوات، كما أن بداية الفيلم في فرنسا ونهايته الخطابية فيها قد أساء إلى المسار الدرامي والسياق الفني للفيلم دون أن يقدم سوى معلومات معروفة جدا ولا أهمية درامية لها. ما عدا ذلك كان التصوير جميلا وإيقاع التمثيل ممتازاً بإستثناء أن الممثلة التي أدت دور سلمى كانت تبدو مقطوعة عن العالم الذي تعيش فيه وكان أداؤها مصطنعا نسبياً على الرغم من جمالها الآخاذ. أما الممثل الذي أدى دور أكرو البطل فقد كان قوياً ومقنعاً وأثبت أنه ممثل من الطراز الأول الذي يسمح له بالتطلع إلى جائزة التمثيل• الاهتمام الذي أولاه جمهور النقاد للفيلم، لم ينته بالتصفيق المعتاد، وهذا يعني أنه كان لدى غالبية المشاهدين ملاحظات وعدم اقتناع كامل بأن عدالة القضية الكردية تسمح بالتصفيق لغزو العراق.
التعليقات