من تجارب فن الممثل في العراق
غادر حكيم جاسم العراق في العام 1999 وكانت آخر أدواره المسرحية في عمل أخرجه بنفسه وتقاسم بطولته مع الفنانة آلاء حسين وحمل عنوان "العباءة" بكتابة فلاح شاكر وعرض العمل في العام ذاته في مهرجان جرش الأردني. أما آخر أدواره التلفزيونية فكان مسلسلاً يحكي قصة الشاعر الكبير الراحل بدر شاكر السياب بتأليف الراحل سامي محمد وإخراج الفنان المثابر فارس طعمة التميمي وقد حمل المسلسل عنوان ( السياب). دوران مختلفان أراد لهما حكيم جاسم كما يبدو لي أن يتركا بصمة صعبة النسيان في عمل الممثل العراقي. فهو في عرض "العباءة" كان اشتغل على مهارات الممثل الاستعراضية كثيراً فيما أراد من خلال تجسيده لشخصية مجدد الشعر العربي أن يبرز آلام هذا الشاعر ومعاناته الطويلة حتى موته بلعب تمثيلي يقارب الأبعاد النفسية التقليدية للدور.
حكيم جاسم الذي حصل على شهادة الماجستير في الفنون التمثيلية كانت خطواته العراقية محسوبة بدقة، وربما بسبب ذلك كانت أعماله قليلة للغاية لا تتناسب ورحلته في الفن التي تقارب من الربع قرن ابتداءاً من الفرق المسرحية الشعبية في مدينة الثورة ومروراً بدراسته في أكاديمية الفنون الجميلة وأنتهاءاً بعمله التلفزيوني والمسرحي حتى خروجه من العراق بلا عودة.
أبرز محطات حكيم المسرحية كان دوره في مسرحية ( الذي ظل في هذيانه يقظاً )، هذا النص الشعري الذي كتبه عدنان الصائغ وأخرجه غانم حميد ، وهي محطة بارزة بالنسبة لحكيم لأن العمل كان يعتمد مبدأ البطولة الفردية شبه المطلقة ما يتيح للمثل أن يبرز إمكاناته الصوتية والجسدية من خلال عرض واحد امتد لما يقرب من الساعتين.
وعلى الرغم من أن المأخذ على عرض مثل ( الهذيان) كان يتمثل في وقوعه بنمط الخطاب الشعائري الذي يتقصد إثارة المتلقي عن طريق المكبوت فيه إلا أن المخرج وممثلوه اجتهدوا في قراءتهم لنص الصائغ الشعري وبدا حكيم جاسم مسيطراً على أدواته مسترخياً في عمله نشيطاً في حضوره. ولأن حكيم جاسم لم يكن ممثلاً نمطياً يثبت عند قالب تمثيلي معين فلقد كانت له مشاركته الناجحة في عرض شديد الإختلاف هو عرض ( ماكبث) بإخراج الفنان شفيق المهدي وبرفقة عدد من الفنانين ومنهم ماجد درندش الذي لعب دور البواب والفنانة القديرة ابتسام فريد التي لعبت دور الليدي ماكبث.
عرض ( ماكبث) أريد له أن يكون واحداً من سلسلة العروض التجريبية التي برزت في المسرح العراقي انطلاقاً من أكاديمية الفنون الجميلة وأسهم في صياغتها مخرجون من بينهم المهدي، ولقد جائت طروحة العرض غريبة على جمهور المتلقين التقليديين عندما افترض تأويل المهدي فرقة كاراتيه تحيط بطاغية العصور ماكبث في الوقت الذي يكون البواب فيه هو أهم سلطات العرض.
كان على حكيم جاسم ، والممثلون الآخرون في هذا العرض، أن يتخلوا تماماً عن ما يمكن تسميته بالتمثيل الداخلي التقليدي لصالح ما يمكن أن تمنحه الإمكانيات الجسدية من دوال تسهم في صياغة الرؤية المشهدية التي تتدخل في صياغتها أيضاً مجموعة من القطع الاكسسوارية ، وخاصة الأزياء في هذا العرض تحديداً.
نستطيع القول أن دور حكيم جاسم في ( الهذيان) ودوره في ( ماكبث) كانا يكفيان لإبراز موهبة تمثيلية لافتة ، وهو أمر نادر الحدوث، فالمعروف أن إمكانيات ممثل ما لا تظهرها إلا سلسلة من الأعمال المختلفة والمتنوعة على أن شرط الاختلاف في العرضين المشار إليهما كان متحققاً فعلاً ولكن شرط التواصل كان يغيب بقوة في تجربة حكيم الذي عمل فترة طويلة بعد هذين العملين في عدد من الأعمال التلفزيونية التي تتراوح أهميتها بين عمل وآخر، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار موجة المسلسلات التلفزيونية الاستهلاكية التي حفل بها المشهد العراقي في تسعينيات القرن الماضي.
كيف برزت موهبة حكيم جاسم من خلال عملين فقط ؟ الإجابة ليست بالصعبة ما دمنا نبحث في قوة حضور الجسد والصوت على الخشبة ، ومن وراءهما قوة البناء النفسي والتكويني والثقافي للممثل. فهو في الهذيان مثلاً بدا قادراً على رسم مشاعر متناقضة ، تبعاً لصياغات إخراجية، بين الكوميديا السوداء والميلودراما والتراجيديا أيضاً. دوره دور جندي عراقي أيام الحرب مع إيران يتقاسم موضعه مع جنود آخرين ، كان من بينهم الفنان ياسين إسماعيل ، وما يتخلل ساعات الهدنة من فرح مقتنص وما يتخلل ساعات المواجهة من موت محدق. هذه الثنائية، ثنائية الموت والحياة، تمثل ثنائية مألوفة في الشغل المسرحي على مدى تاريخ المسرح العالمي، وهي ثنائية تتيح لممثلها اللعب في فضاءات من الخوف والرعب والمرح والسخرية والعبث وهو ما تحقق إلى حد بعيد في عرض الهذيان. ولكن مشكلة مثل هذه العروض تكمن، كما أشرنا حين العرض، في ارتكازها على محاكاة اليومي فتقع في أحيان كثيرة اسيرة له دون أن تستطيع رفع هذا اليومي إلى مصاف الدراما الخلاقة.
في ( ماكبث ) كانت شروط اللعبة تختلف كلياً. نحن بإزاء عرض تجريبي يحاول جاهداً التحليق بعيداً عن اليومي وإن اتخذ منه نقطة انطلاق. في عرض مثل ( ماكبث) لا يعد ضرورياً محاكاة الواقع إلا من خلال الإشارات السريعة اللماحة ما يدفع بالممثل للبحث عن آليات اشتغال جديدة تضعه في السياق التجريبي المفكر به أيام التمرينات وأيام العرض على السواء. لقد قدم ماكبث في المسرح العالمي برؤى عديدة جداً وهو في كل رؤية جديدة كان ينبعث من التاريخ والواقع مثل انبعاث الأبطال التراجيديين العظام. وإذا أخذنا بنظر الإعتبار أنه ليس من اليسير أن تجسد شخصية ماكبث المرسومة على ورق شكسبير أصلاً تصبح عملية تجسيده ضمن رؤية مخالفة لرؤية الورق أو مفارقة لها مهمة أكثر صعوبة لأن على الممثل، ومن وراءه المخرج صاحب الرؤيا والتأويل، ابتكار خطوط جديدة لعلاقة البطل بالشخصيات الأخرى وأيضاً علاقته بالدائرة المحيطة، أو ما يمكن تسميته بدائرة علاقات العرض. هنا وجد حكيم جاسم نفسه في لعبة قاسية ، لعبة مفادها دور الطاغية، ومرجعيات الطاغية في الواقع العراقي قريبة جداً ومألوفة جداً، ومفادها ايضاً كيف يلعب شخصية معروفة قياساتها ( الطاغية ) في نطاق عرض أريد له أن يكون تجريبياً وبعيداً عن المحاكاة. كان هذا هو شرط عرض ( ماكبث) : أن يلمح ولا يقول وأن يبهج ولا يسر. لم يكن أمام حكيم وفريق العمل سوى التعويل على ميمياء الوجه وما يمكن أن ينتجه الجسد وحركاته من علامات إشارية يكملها الشغل الإخراجي في تأسيس فضاء العرض وما يرافقه من مؤثرات صوتية وضوئية.
عاد حكيم بعد انقطاع طويل عن خشبة المسرح ليقدم عرض ( العباءة ) مخرجاً وممثلاً في تجربة محفوفة بالمخاطر التي تنبعث من كونه يخرج للمسرح للمرة الأولى فيما يمثل بلا سلطة تراقبه. صحيح أنه دعا على مراحل عدداً من المعنيين، نقاد مسرح ومخرجين ومن ضمنهم كاتب هذه الورقة، لمتابعة عمله في البروفات، وصحيح أن عرض ( العباءة) كان من المؤمل أن يخرجه الفنان ناصر طه الذي قطع شوطاً لا بأس فيه مع الممثلين، ولكن الصحيح أيضاً هو أن حكيم واصل التحدي بمفرده لشهور طويلة حتى حانت ساعة العرض في عمان.
يسخر عرض ( العباءة) من واقع الحرب محاولاً قراءة آثاراها التي لا تعد على حياة الفرد العراقي من خلال استدعاء مثل عامي عراقي مفاده ( عرب وين طنبورة وين). ولأن موضوعة العرض تلامس هماً يومياً مألوفاً بالنسبة للمتلقي فقد عمد الاخراج إلى التقشف كثيراً في المفردة الاكسسوارية مستعيضاً عن غيابها القوي بجسد الممثل كي يبتعد مسافات معقولة عن الإحالة المباشرة لحدث العرض، وهو حدث يومي، وقد أفاد المخرج في هذا السياق من إمكانيات الفنانة آلاء حسين الجسدية والاستعراضات التي صممها الفنان ضياء الدين سامي ونفذها بمهارة بطلا العرض، وهي استعراضات كانت في أحيان كثيرة تمثل بديلاً عن المعنى الواضح الذي يبثه النص فتكون حركة الجسد وما يرافقها من موسيقى وضوء بمثابة حوار جمالي يخرج العرض من رتابة متوقعة كما يمنح متلقيه قدرة على المشاركة في اللعب المسرحي.
في شغله التمثيلي في هذا العرض بدا لافتاً أن حكيم جاسم قد سلم جسده لمصمم الاستعراضات الذي يبحث في العادة عن مرونة الجسد وسياقاته الشفروية. ظهر حكيم راقصاً إلى جانب كونه ممثلاً في تجربة تحسب له بالرغم مما يمكن أن يسجل عليها من مآخذ إخراجية في قراءة نقدية صارمة. إن الممثل في عرض ( العباءة) كان عليه أن يطلق العنان لمواهب التمثيل المختلفة في عرض يمثل بشكل أو بآخر احتفالاً بالفرح في وقت تسود فيه الأحزان.
غادر حكيم جاسم العراق وهو في ذروة تألقه واستقر به المقام في دولة الامارات العربية المتحدة مدرساً للمسرح. وغياب حكيم عن المسرح العراقي يمثل خسارة كبيرة شأنها شأن الخسارات التي مني بها مسرحنا لغياب عدد ليس بالقليل من مبدعيه من مخرجين وممثلين وفنيين ومن حق المتلقي العراقي أن يطمح ليوم تعود فيه هذه الكفاءات الوطنية لبلادها وتباشر صياغة مسرح عراقي طموح.
الكاتب شاعر من العراق يقيم في أديلايد
التعليقات