مسرحية شعرية في مشهد واحدللشاعر الأيرلندي: وليم بتلر ييتس
ترجمة وتعليق: علي كامل
الشخصيات
ـ الصبي
ـ العجوز
(خشبة المسرح عارية.. ثمة منزل خرب وشجرة جرداء في الخلفية)
الصبي: جبنا المدن والقرى،
قطعنا الأزقة والطرقات،
صعدنا الروابي وهبطنا الوديان،
سرنا في كل الاتجاهات،
وأنا أحمل هذه الحقيبة على ظهري، مصغياً لما تقول.
العجوز: تأمّل ذلك المنزل، أيها الصبي.
آه، أتذكرّ الآن دعاباته وحكاياته..
أريد أن أتذكّر ماقاله الساقي لحارس الطرائد الثمل في منتصف أكتوبر، لكنني
لا أستطيع.
ليس هناك أحداً غيري بأستطاعته أن يتذكر ذلك.
آه، ماذا سأفعل إذا لم يكن بمقدوري أن أتذكرّ؟
أين مضت دعابات ذلك المنزل وحكاياته..
وأين ذهبت عتبته، تلك التي كانت تمتد حتى زريبة الخنازير؟
الصبي: وهل جسّت قدماك هذه الطريق من قبل؟
العجوز: أنظر.. ضوء القمر يهبط على قارعة الطريق،
ظل الغيمة يغفو على سطح المنزل.
كلهّا رموز.
تأمّل تلك الشجرة.
ماذا تشبه؟
الصبي: تشبه عجوزاً أخرق.
العجوز: إنها... إنها تشبه.. ليس مهماً ماذا تشبه.
رأيتها في العام الماضي، عارية جرداء، كما هي الآن،
تماماً مثلما إخترتُ لنفسي أفضل مهنة.
رأيتها منذ خمسين عاماً مضت، قبل أن تمزقها الصاعقة،
أوراق خضراء، أوراق يانعة، أوراق زيتية كثيفة كالزبدة،
شجرة بدينة تنبض بالحياة.
قف هناك وأنظر،
لأن ثمة أحد ما في ذلك المنزل.
(يضع الصبي حقيبته على الأرض ويقف عند المدخل)
الصبي: لايوجد أحد هنا.
العجوز: ثمة أحد هناك.
الصبي: أرضيته تلاشت ونوافذه تحطمت، وهناك في موضع السقف حّطت السماء.
هنا، كِسرٍ من قشور بيض تناثرت بعيداً عن عش غراب.
العجوز: ومع ذلك، هناك من لم يبالي بما ذهبَ أو بقى،
إنها الأرواح القابعة في المطهر تعود ثانية إلى مساكنها وأماكنها المألوفة.
الصبي: أنت تفقد حواسك ثانية.
العجوز: إنها خطاياهم وهي تبعث من جديد، ليس لمرة واحدة، بل لمرات عديدة.
لقد أدركوا أخيرا عواقب تلك الخطايا التي ارتكبوها بحق أنفسهم أو بحق الآخرين.
ربما سيمنحهم الآخرون بعض العون لتهدأ أرواحهم، لكن بعد فوات الأوان، حين تدنو العواقب من نهاياتها، وحيث ينبغي على الحلم أن ينتهي.
أما تلك التي ارتكبوها بحق أنفسهم، فليس ثمة عون إلا في أنفسهم، وفي رحمة الرب.
الصبي: لم أعد أحتمل، لقد مللتُ هذا! تحّدث إلى الغربان إن شئت.
العجوز: كفى!.. إجلس هناك، فوق تلك الصخرة.
إن ذلك المنزل، هو المكان الذي ولدتُ فيه.
الصبي: المنزل الكبير العتيق الذي إحترق؟
العجوز: نعم. كان ملكاً لأمي، جّدتك.
هذا المشهد الفاتن، هذا الريف الجذاب،
وجار الكلب وزريبة الحصان، الحصان والكلب.
كان لديها حصان تربطه هناك، قرب مخزن الجلود.
هناك التقت أبي، سائس الخيل. تطلعّت إليه، ثم تزوجته.
لم تكلمّها جدتي بعد ذلك أبداً، وقد كانت جدتي على صواب.
الصبي: أين هو الصواب، وأين هو الخطأ؟
لقد أخذ جدي الفتاة والمال.
العجوز: تطلعّت إليه، ثم تزوجته، وبددّ، في ما بعد، كل ممتلكاتها.
لم ترى أسوأ مارأت، لأنها ماتت لحظة وهبتني الحياة.
لكنها تعرف الآن كل شي وهي في قبرها.
عاش كبار القوم وماتوا في هذا المنزل.
قضاة وكولونيلات، أعضاء برلمان، قادة عسكريون وحكاّم،
وقبلهم قديماً، رجال حاربوا في أوغريم و بوين*.
بعضهم تابع عمله الحكومي في لندن، وبعضهم سافر ليعمل في الهند، ثم عاد ليموت في وطنه.
أما البعض الآخر فقد كانوا يأتون من لندن كل ربيع، لرؤية الأشجار وهي تزهر في مايو في المنتزه العام.
لقد أحبّوا تلك الأشجار التي هوى عليها أبي بفأسه، ليسّدد بثمنها ماخسره في القمار، أو تلك التي أنفقها على سباق الخيل والشراب والنساء.
لقد أحّب المنزل، أحّب كل ممراته المتعرجة، لكنه أحاله في الآخر إلى أنقاض.
المنزل الذي شبّ وتزوّج ومات فيه كل أولئك الرجال العظام.
لذا أعلن هنا، من هذا المكان، عن ذلك الاثم الكبير.
الصبي: لكنك كنت سعيد الحظ!
ثياب فاخرة، وربما، كان لديك حصان رائع لتمتطيه.
العجوز: ولكي يبقيني أدنى معرفة منه، لم يبعثني أبداً إلى مدرسة.
لكن البعض ممن أحب فيّ أمي، منحني قسطاً من الحب:
زوجة حارس الطرائد علمتني القراءة،
راعي الكنيسة علمّني اللاتينية،
كانت هناك كتب قديمة بأغلفة فرنسية،
كتب من طراز القرن التاسع عشر،
كتب جديدة، كتب قديمة، كتب، كتب،
كتب بالأطنان.
الصبي: وأنت، أنت، أيّ تعليم منحتني؟
العجوز: لقد منحتك تعليماً يليق بإبن زنا ولدته ابنة سمكري في إحدى القنوات.
حين بلغتُ السادسة عشرة من عمري، حرق أبي المنزل، حين كان ثملاً.
الصبي: وها أنا الآن أبلغ السادسة عشرة من العمر.
العجوز: وأحترق كل شيء، الكتب، رفوف الكتب، كل شيء كان قد أحترق.
الصبي: وهل صحيح مايقوله عنك المارّة...
(صمت)
أنك قتلته في المنزل المحترق.
العجوز: هل ثمة أحد هنا سوانا؟
الصبي: كلا، لاأحد.
العجوز: لقد طعنته بهذه السكين التي أقطع بها الخبز الآن، و تركته وسط النار.
سحبوه إلى الخارج،
كان أحدهم قد رأى أثر الجرح، لكنه لم يكن متيقناً من ذلك، لأن جسده كان متفحّماً
وثقيلاً.
أقسمَ البعض من أصدقائه الثملين أخذي إلى المحكمة،
تحدثوا عن مشاجراتي معه وتهديداتي له.
أخيراً، أعطاني حارس الطرائد ثياباً عتيقة وهربت.
مارست مهناً عديدة، عملت هنا وهناك، قبل أن أصبح بائعاً متجولاً في الطرقات.
انها ليست مهنة جيدة، لكنها تناسب شخصاً مثلي، بسبب أنني إبن أبي، وأيضاً بسبب مافعلت وما سأفعله.
اصغ لضربات حوافر الحصان.. اصغ.. اصغ جيداً.
الصبي: لا أسمع أيّ صوت.
العجوز: ضربة! ضربة!
هذه الليلة، هي الذكرى السنوية لزفاف أمي، أو الذكرى السنوية لميلادي.
جاء أبي ممتطياً حصانه، قادماً من الحانة، يتأبط تحت ذراعه قنينة شراب.
(تضاء فجأة إحدى نوافذ المنزل المهجور، وتظهر من خلالها فتاة يافعة)
انظر إلى تلك النافذة. كانت تقف هناك وتصغي.
كان جميع الخدم نائمين، أما هي فقد كانت تنتظر وحيدة.
لقد تأخر كثيراً،
كان يتسامر في الحانة، يشرب، يتبجح ويفاخر.
الصبي: لكنني لا أرى هناك سوى فجوة فارغة في الجدار.
أنت تلفقّ كلّ هذه القصص. كّلا، إنك مجنون!
لقد بدأت تفقد حواسك يوماً بعد يوم.
العجوز: كل شيء صاخب الآن، لأن حصانه يخترق الزقاق المفروش بالحصى، هذا الزقاق الذي يكسوه العشب هذه الأيام.
اصغ، لقد توقفت ضربات حوافره.
انه يتجه الآن نحو الجانب الآخر من المنزل، بأتجاه الزريبة، ليربط حصانه.
هاهي تهبط السلالم، لتفتح له الباب.
لم تكن هي بحال أفضل منه هذا المساء،
ولم تبال لأنه نصف مخمور.
لقد كانت مجنونة به.
هاهما يصعدان السلالم،
إنها تدخله إلى غرفتها.
هذه الغرفة التي هي الآن غرفة الزواج.
آه، لقد تلاشى ضوء النافذة ثانية.
لا،لا تدعيه يلمسك!
ليس صحيحاً مايقال عن المخمورين، أنهم لاينجبون.
لاتدعيه يلمسك، لأنك سوف تنجبين، وبعدها عليك أن تتحملي وزر جريمته.
ياإلهي، انها صّماء، لاتسمع! هو أيضاً لايسمع! ياإلهي، لقد أصيبا بالصمم!
لو رميتُ عصا، أو حجراً، فلن يسمع أحد منهما، وهذا هو سر فقداني لحواسي.
لكن ثمة معضلة أكبر،
عليها أن تحيا الندم كل لحظة، في أدق تفاصيلها،
بإمكانها أن تستأنف المشهد الشهواني، لكن، من دون احساس باللذة.
واذا كان ينبغي للندم واللذة أن يكونا معاً هناك، فأيهما هو الأعظم؟
أنا رجل تعوزه المعرفة.
(يشير للصبي دون أن يلتفت نحوه)
اذهب وأحضر تيرتوليان **
وسنعالج أنا واياه كل هذه المعضلة،
فيما هما يضطجعان على السرير لكي ينجباني.
(يلتفت فجأة نحو الصبي)
قف، ارجع! ارجع!
آه، أنت تفكر أن تفـرّ بكيس نقودي، إذاً!
أظننتني أعمى أو أصّم!
لقد رأيتك وأنت تدسّ أصابعك في الحقيبة.
(يتلاشى الضوء تماماً من النافذة)
الصبي: إنك لم تعطني أبداً حصتي من النقود.
العجوز: لو أعطيتها لفتىً مثلك، فستبدّدها في الشراب.
الصبي: انها حصتي، وأنا حرّ فيها، أنفقها كما أشاء.
العجوز: ناولني الكيس وأخرس.
الصبي: كّلا، لن أعطيه لك.
العجوز: سأكسر لك أصابعك.
(يتنازعان على كيس النقود، فيسقط وتتناثر النقود على الأرض. يترنح العجوز دون أن يسقط. ينهضان، يحدقّ أحدهما بوجه الآخر، فتضاء النافذة من جديد ويظهر من خلف الستارة رجل يسكب الشراب في قدحه.)
الصبي: ماذا لو قتلتك الآن؟
لقد قتلتَ جدّي لأنك كنت شاباً وكان هو عجوزاً.. والآن أنا الشاب وأنت العجوز.
العجوز: (يحدّق في النافذة) ستة عشر عاماً، تلك، كانت أجمل السنوات..
الصبي: بماذا تدمدم؟
العجوز: كانت أصغر سناً منه،
ومع ذلك، كان ينبغي عليها أن تعرف أنه ليس من نوعها.
الصبي: ماذا تقول؟ إذهب، ليأخذك الشيطان!
(يشير العجوز إلى النافذة)
ياإلهي! لقد أضيئت النافذة،
ثمة شخص ما يقف هناك،
لكن المنزل بدون أرضية، أرضيته إحترقت وتلاشت تماماً!
العجوز: النافذة أُضيئت لأن أبي جاء يبحث عن قدح لشرابه.
هاهو يتكىء على النافذة مثل بهيمة.
الصبي: أنت، أنت، أنت ميت حي. أنت قاتل.
العجوز: " وبعدها غفت العروس فوق جسد آدم " ***
أين قرأتُ هذه العبارة؟
مع ذلك، ليس هناك من أحد يتكىء على النافذة،
سوى طيفه المرسوم في مخيلتها.
إنها ميتة الآن، وحيدة في ندمها.
الصبي: آه، الجسد الذي كان حزمة من عظام بائدة قبل أن أولد. شيء بشع، شيء مفزع.
(يغطي عينيه)
العجوز: ذلك الوحش قابع هناك، لا يريد أن يعرف شيئاً أو يكن شيئاً.
لو قتلتُ انساناً تحت تلك النافذة، فلن يرف له جفن.
(يلتفت نحو الصبي، يتطلع فيه ثم يطعنه فجأة بالسكين)
أبي وولدي بذات السكين!
إنتهى كل شيء، كل شيء..
(يطعنه مرة أخرى وأخرى.. تتضاعف عتمة النافذة شيئاً فشيئاً.
تمر لحظة صمت، ثم يبدأ يدندن بترنيمة أطفال)
اش.. اش.. اش.. وداعاً ياصغيري..
وداعاً يافارس أبيك،
ياإبن أمك،
تلك المرأة الجميلة الألقة.
كلا، كلا.
هذه العبارة أيضاً قرأتها في كتاب.
إذا أردت أن أنشدتها، فينبغي أن يكون ذلك من أجل أمي.
لكنني بحاجة إلى شعر.
(تغمر العتمة المكان، عدا دائرة ضوء تنير الشجرة)
تأمّل تلك الشجرة.
إنها تقف هناك مثل روح نقية طاهرة، وسط ضوء بارد، عذب، متلألأ.
أمي العزيزة:
النافذة أظلمت ثانية، لكنك تضيئين، لأنني وضعت حداً لكل تلك العواقب.
قتلت الفتى لأنه شبّ وأغرم بالمرأة وأراد أن يّدنسها.
أنا عجوز تعيس وقذر، ومع ذلك، أنا بريء.
حين غرزت هذه السكين العتيقة في المرج وانتزعتها ثانية،
أشرق كل شيء من جديد، والتقطت كل النقود التي نثرها على الأرض.
سأمضي إلى مكان بعيد،
هناك، حيث بمقدوري أن أروي دعاباتي القديمة لرجال جُدد.
(يزيل الدم عن السكين ويبدأ في التقاط النقود)
ياإلهي.. ضربات حوافر الحصان ثانية!
كيف عادت بهذه السرعة..
ضربة! ضربة!
إن مخيلتها لاتستطيع أن توقف ذلك الحلم.
قاتل مّرتين،
وكل ذلك من أجل لاشيء.
أما هي فعليها أن تبعث الحياة في تلك الليلة الميتة، ليس لمرة واحدة، بل لمرات عديدة..
ياإلهي، أعتق روح أمي من حلمها!
وسّيكف الرجال عن خطاياهم.
خففّ البؤس عن الأحياء، والندم عن الموتى..
هوامش النص:
* أوغريم و بوين:
معركة بوين جولاي 1690، المعركة التي إنتصر فيها الجيش البروتستانتي بقيادة الملك وليم أوف أورانج على الجيش الكاثوليكي الذي كان يقوده الملك جيمس الثاني.
معركة أوغريم 1691، المعركة التي قمعت فيها قوات الملك وليم أوف أورانج بقيادة الجنرال جينكل، الجيش الأيرلندي الذي كان يحارب تحت القيادة الفرنسية.
** تيرتوليان: كاتب لاهوتي، عاش في نهاية القرن الثاني. كتب بحثاً بعنوان De Anima
تناول فيه موضوعتي اللذة والندم، مستنتجاً أن لهما وجوداً متماثلاً في الروح، و الموت، ومابعد الموت، على حد سواء.
*** إشارة لمقطع من قصيدة " تعريشة الجنة " للشاعر والرسام دانتي غابريل روزييتي 1868.
تعليق المترجم:
كتب الشاعر ييتس مسرحية "المطهر" عام 1939، قبل وفاته بأشهر، وقد كانت هي و"موت كاتشولين" آخر ثمرتين سقطتا من شجرته الخريفية الجرداء. "المطهر" دراما معتمة، من فصل واحد، تضمنت ثيمة مختزلة، محكمة المبنى، يتساوى الحدث فيها مع زمن إدائها على خشبة المسرح، رغم أن الفكرة تغطي فترة نصف قرن من حياة الشخصية.
إحدى السمات المميزة والمشوشة للشخصية الرئيسية فيها، قدرتها على العيش، كما يبدو، خارج الزمن الكرونولجي. فالزمن الماضي يكاد يمتلك وجوداً حسياًً في وعيها الراهن، أما موضوعات مثل الذاكرة، والفانتازيا، والحدث الآني، فإنها جميعاً تكتسب ملمساً واقعياً لدى هذه الشخصية. يقودنا ييتس في مطهره إلى رحلة نحو مديات أعمق للوعي الذاتي، لغرض الكشف عن الكيفية التي يتكون فيها الأدراك الحسي لدى هذه الذات. أما الشيء المثير للدهشة، فهو قدرة هذا الشاعر أن يعطي لذاتية حادة ومكثفة كهذه، شكلاً درامياً قابلاً للتماهي مع الحياة.
كان الشاعر قد إطلع على تقاليد مسرح "نو" الياباني القديم، وإستلهم الكثير منه في نتاجاته الشعرية والدرامية، وخصوصاً ذلك الجانب المتعلق بدلالات الأشباح ووظيفتها في الدراما. فلقد وظف شخصية الشبح في العديد من نتاجاته الدرامية أمثال " أحلام العظام "، " الجمجمة "، و " كلمات فوق زجاج النافذة "، وأخيراً في مسرحيته " المطهر ". إن ثيمات مسرحيات " نو " كانت تتطلب عادة وجود (شبح) يُستدعى من قبل الممثل الثانوي waki والذي كان يقوم بأداء دوره الممثل الرئيسي في المسرحية والذي يدعى shite.
إن وظيفة الشبح shite، هو بعث الحياة ثانية في الأحداث الماضية، لأجل إنجاز عملية تطهير من دنس إثم سابق، ينجزه ذلك الشبح إلتماساً للغفران من الأله بوذا، كي يخفف عنه آلامه و معاناته.
waki هو العنصرالوسيط بين الشبح وبوذا، والذي هو، مع ذلك، ينضم إلى جانب الشبح بدافع من المشاركة الوجدانية. فحين يشهد عذابات الشبح، تتحرك فيه مشاعر الرأفة والشفقة، فيتجه صوب الأله بوذا مقدماً صلواته، بغية إثارة ذات المشاعر في نفسه، لتخفيف تلك العذابات، فيستجيب بوذا لندائه، وتهدأ عندذاك روح الشبح.
إن شخصية العجوز في " المطهر " تكاد تتماهى و شخصية waki، فهو الآخر، تراه يحوم حول بقايا ذلك المنزل القديم المنهار، والذي يشكل بالنسبة إليه دلالة خاصة.
فهو يستدعي شبحا أمه وأبيه عبر حاجز الصوت، عن طريق سماعه ضربات حوافر الحصان الوهمي، تلك التي تعطي إشارة للوعي، بين الحين والآخر، بقدوم الشبحين إلى المكان. حين تتوحد صورة الشبحان بصورة المنزل، تنشط ذاكرة الشخصية، لتبدأ فعلها في إستحضار مشهد الماضي.
ييتس لايلتزم بالطبع بحذافير طقس النو الياباني، فنراه يوزع أدوار شخصياته كما يريد. فأشباحه مثلاً لايقوم بأدائها ممثلون، ولاتجري بينهم أية مونولوجات أو حوارات، كما هو الحال في النو، بل هو يوكل دوري waki و shite إلى العجوز ليؤديهما معاً. بمعنى أنه سيستحوذ على دوره ودور الشبحين، في آن.
إن المهمة التي أناطها فنان مسرح النو لممثليه للعب دور الأشباح، يحيلها ييتس إلينا،، نحن المتفرجين، مرغماً أيانا على توظيف إدراكاتنا الحسية ومخيلتنا، لرسم ملامح وصور تلك الأشباح، ومن ثم لعب أدوارها في داخل وعينا. وهذا يتطلب منا عقد مقارنة بين مانتخيله نحن وبين مايتخيله العجوز وهو يروي قصة هذين الشبحين.
والآن هل بمقدورنا معرفة أن مايسرده العجوز من أحداث، هو نتاج لموقف محايد أم منحاز؟
هنا يتوجب علينا الأحتراس من نوايا العجوز، لأن من الممكن جداً أن تخضع مخيلته لنواياه!
وبما أنه الراوي، فهذا يعني أن مخيلته هي التي ستصور لنا ملامح أشباحه، عندئذ يمكنه، عبر روايته لقصصهم، أن يقوم بتأويل سلوكهم ودوافعهم، طبقاً لنواياه الخاصة.
بمعنى أننا سنتعرف على معاناتهم وخيباتهم وآمالهم من خلاله موشوره هو. إذاً، هذا سيقودنا إلى السؤال الأهم: هل نحن واثقون من موضوعية تلك مخيلة أم لا؟
العجوز يروي لنا، هنا، حكاية مريعة تتوزع على المشاهد التالية:
ـ زيجة غير متكافئة أو هي غير ملائمة إجتماعياً.
ـ موت الزوجة أثناء ولادتها، وميلاد الطفل.
ـ إفلاس الأب، بسبب إنفاقه المتهور لثروة زوجته، على الخيول والشراب واالنساء.
ـ جريمة الأبن في قتله لأبيه ورمي جثته وسط النيران التي أشعلها في منزل الأسلاف.
ـ الأعتقاد الراسخ لدى الأبن، أن روح أمه وجب أن تقاسي عذاباً أبدياً، عقاباً على عواقب شغفها بسائس خيل فظ، جاهل وقاسي، ينجب طفلاً، كتب عليه أن يصبح في ما بعد قاتلاً لأبيه. (كم يذكرنا ذلك بأوديب الملك وقدره!).
ـ توق ورغبة ذلك الطفل في أن يجد طريقة لوضع حد لآلام أمه، وتحرير روحها من الآثام كي تستريح.
القصة إذاً، ليست سوى سيرة حياة هذا العجوز، يرويها هو بنفسه، وما الشبحان إلا طيفا أمه وأبيه، وما المنزل المقوّض إلا منزلهم القديم، وإن كل ماسعى إليه هذا الشيخ هو ليس أكثر من أن يضع حداً لعواقب ماجرى له في حياته، من أجل أن يضع حداً لعذابات أمه.
إن سلوكه يحكمه دائماً إيمان راسخ، بأن ثمة " لعنة " تتعلق بحقائق تستند إلى طبيعة مولده، تلك التي ستصبح السبب الجوهري لكل معاناته.
نحن نراه يهتاج ويستشيط غضباً إزاء الماضي، لأنه لايستطيع أن يشكله من جديد، بطريقة أخرى مختلفة، طالما أنه لم يرتضي قبول ماقدمّه له ذلك الماضي من تأريخ هو بمثابة إرثه.
إنه يرى ثمة إثم قد أرتكب في زيجة أمه، تلك التي حدثت تحت وطأة رغبتها الجنسية الهوجاء من سائس خيل "... تطلعت إليه وتزوجته ".. من رجل فظ متوحش بدّد ثروتها وأملاكها، إثر موتها بعد ولادته ".. على سباق الخيل، والشراب والنساء "، هو ما دفعه، وهو الصبي في السادسة عشر من العمر، أن يقتل أبيه، ويحرق منزل الأجداد، ليمحو هويته تماماً، قبل أن يصبح مشرداً. إن القسم الكبير الذي يشغل حيزاً في هذه الدراما الشعرية هو قصة ماضي هذا العجوز، تلك القصة التي لم تمت في وعيه، بل تحيا في ذاكرته بشكل لايرحم. أما طريقة سرده لتلك القصة، فتوحي لنا كما لو أن الراوي يتحدث بلسان من لديه قوة عليا ونفوذ العالم في كل الأمور، ومن بيده مصائر الآخرين. فمنذ اللحظة التي تتكشف لنا الجريمة، جريمة قتلته البشعة لأبيه، نجده يتخذ لنفسه صورة شبيهة بصورة الرّب، كمقرر لتلك المصائر، رغم أن التطور الدرامي يبدأ، في ما بعد وبشكل متزايد، في تقويض تلك السلطة الزائفة.
من الصعب، حقاً، أن نقرأ في طريقة تصويره لبورتريهات الأب والأم، ذلك التأريخ المعتم، الذي يصّر عليه بأستمرار على أنه حقيقة لتأريخهما!منطقه العنيد، ذلك الذي يرفض الصفح، هو أحد مظاهر العقل الذي يسعى للعب دور الرب، ومنطق كهذا هو منطق شرير ومستبد تماماً.
أما الطريقة التشخيصية الصامتة للأشباح، فهي تعبّر بجلاء عن إنطفاء هذه العائلة ودمار ذلك المنزل، فصورة الأم المتوفاة وهي تظهر وسط إطار نافذة متفحمة، تليها صورة الأب بهيئة سكير أحمق أشبه ببهيمة، هما صورتان أقرب إلى أيقونات قديمة خلت من مهابة وجلال الأبوة، وهذا ما يفاقم من غيظ العجوز وبغضه. ومع ذلك، فثمة صورة أخرى أكثر أشراقة لتلك الشخصيات التخييلية، والتي تتناقض مع الصورة السابقة. فشبح الفتاة الشابة والسعيدة، كما يبدو، وهي في حالة إنتظار مثقل بالشوق واللهفة، وشبح الشاب المبتهج، وهو يحتسي شرابه بلذة ومزاج من الرضا، هي صور مليئة بالعواطف الأنسانية والآمال، وهي تكشف عن حقد وتحامل كبيرين يضمرهما العجوز في أعماقه، وتعلن عن موقف أناني منحاز ومستبد، تجعل من كلماته تبدو خالية من المروءة والسماحة بشكل شكس. لكن، لو مازجنا الصورتين معاً صورة الحلم هذه وصورتما وهما مؤطرتان بنافذة متفحمة من بقايا منزل مقوّض، فإنها ستوحي حتماً بإحساس من عذاب مبهم ذات صفة سايكولوجية. كذلك تفعل إستجابات الصبي للحكاية بشكل مماثل، فهو ليس لديه إدراك بمغزى الفقدان والأثم، و نبرات كلامه لاتتضمن رأياً ذا فطنة، فهو يخلو تماماً من أي إحساس بالمشاركة الشخصية بذلك الماضي. حين يستدير ويرى شبح جّده، يعبّر عن خوف خالص من الغرابة السوريالية لهذه الكارثة، التي تجد تعبيرها في كلماته التي يختصر فيها شخصية أبيه مخاطباً أياه:
" أنت ميت حي. إنك قاتل ".
براءة الصبي من ثقل الخطيئة الأولى، تضعه في تناقض تام مع أبيه، ذلك الذي لايتردد في الآخر من ذبحه بإحساس قدري، كما لو أنه قربان! ولكن قربان لمن؟ وهكذا، ومن جديد، نرى العجوز وهو يتقمص دور القدر، بهدف وضع حدّ لـ "... كل تلك العواقب. " التي كان سببها زواج أمه.
إن إضفاء الصفة الشعائرية على الحدث، نعثر على تجلياته في طريقة العجوز وهو يسعى إلى تجريد نفسه من الصفات الأنسانية.
إن قتله الصبي، هو بمثابة قربان إسترضاء، لتحرير روح الجّدة من جحيمها، والعبور بها إلى الفردوس، أو هكذا يريدنا منطق العجوز أن نعتقد، وأن يعتقد هو نفسه أيضاً.
لكن، على الرغم من البهجة التي يستشعرها العجوز وهي في أوجها، إلا أن وعيه يستبدلها بعجالة، ليحل بدلها الرهبة: "... قاتل مرتين، وكل ذلك من أجل لاشيء ".
وهكذا تكشف المواقف، تدريجياً، أن الدافع الحقيقي لكل أفعاله، إنما هو التوق الملحّ للثأر مما أنتجه ذلك الماضي من كراهية ذاتية متزايدة. لعنته للحظة ميلاده، هي لعنة لذاته ولأسلافه في نفس الوقت، ومع ذلك فإن تجريد الذات من صفاتها الأنسانية لايمكنه بأي حال أن يخمد صدى الحكاية التي يرن صداها في وعيه.
إن كل مساعي تفكيره، وهو يقوم بذلك، الغرض منها، فقط، دفعه عميقاً في متاهة اليأس. إنه المعماري الذي شيّد مصيره بنفسه، وهذه هي بصيرته التي أعمته عن أن يجد أسساً للغفران.
المسرحية لافتة للنظر، بسبب من شفافيتها، صفائها، وكثافتها، وأيضاً بسبب الطريقة التي وظفّ فيها الشاعر هذا النمط من السرد الأستغراقي، المكثف درامياً، لأستخدامه وسيلة لنقل الرحلة عميقاً في زوايا وخفايا روح العجوز وعقله، كراوي للحدث، وإيصالنا فيما بعد إلى النقطة التي ندرك فيها السبب الذي دفعه إلى سرد حكايته، ولماذا كان يجب عليه أن يصوغ نتائجها بطريقة شخصية تستجيب لندائاته الذاتية.
ييتس يضع أقوال العجوز بجوار التكوينات البصرية للحكاية، هدفه في ذلك تخفيف وثلم توكيداته وأحقيته، منبهاً إيانا، في نفس الوقت، على إحتمال أن من الممكن جداً أن تكون مدركاته الحسية مشوهة.
فمن الأمثلة على تلك الصور المسرحية، الأشباح العديمة الحس، الطبيعة بصورتها الودية، الواقعية السلسة، الحركات النشطة والمتعافية للصبي، لمعان النقود المبعثرة على الأرض , و لمعان المدية المنزوعة من غمدها تحت ضوء القمر، كذلك مشهد الذروة، حيث العجوز يهدهد ولده المقتول مرّدداً، بشكل غير متناغم، ترنيمة طفل، وهي الوضعية التي تعبر، كاريكتورياً، عن الصورة التقليدية ليسوع وهو ميت إلى جانب العذراء، موحية بمعكوس تام، إلى جنون العجوز وتدنيسه للمقدسات. كذلك صورة العتمة، تلك التي تظهر من خلال شعاع الضوء الذي يعزل الشجرة التي صعقتها ومضة البرق، والتي كانت تبدو في البدء، مجرد ديكور طبيعي خاص بالمشهد، لكنها أصبحت الآن رمزاً إلى الظلمة السحيقة لروح العجوز. ومع ذلك، فإن مايبدو لنا من تلك العتمة، مجاز للكآبة التامة، هي بالنسبة له، صورة للسمو والفضيلة، رغم أن تلك الكآبة وذلك النكد، يكشفان له، في الآخر، جوهر حقيقته المرة، ولو بعد فوات الأوان.
إن أي قصة يمكنها أن تأسر المتلقي، إذا رويت بطريقة خلاقة، وهذه القصة هي من النوع الذي يحرك المخيلة، لأن أحداثها تتكشف لنا وتنمو أمامنا من خلال سرد تفصيلي محكم ومنطق يتطور بشكل راسخ، رغم الرعب الذي يهيمن على مناخ الفكرة.
ييتس لايتبّع أعراف القصة في مونولوجه السردي، فهو لايبقيه حبيساً ضمن التأمل العاطفي عبر مناجاة النفس، بل يمنحه صفة الديالوج، مجسداً في تلك الحوارات التي تجري بين العجوز والصبي أو تلك التي تدور بين الشخصيات التخييلية، عبر مخيلة العجوز.
لقد أستلهم ييتس الكثير من سوفوكليس في كتاباته الدرامية، فالمنطق القدري الذي لايمكن تغييره في "المطهر" يكاد يتماهى تماماً وقدر أوديب سوفوكليس، وهي حجة أخرى تؤكد الطبيعة التسلطية لنمط تفكير العجوز، تلك التي أجاز لنفسه أن يماثلها، ضمن مخيلته المعتمة، بسلطة الرب أو بقوته المطلقة.
إن حجم وسعة خيانة العقل لذاته، جعلت من مسرحية " المطهر " واحدة من أكثر التراجيديات عمقاً ودلالة.
مصادر ذات صلة:
(1)
W.B.Yeats.Selected Plays. Edited by: Richard Allen Cave. Penguin Books
Japanes NO Dramas.Edited amp; Translated by Royall Tyler. (2)
1992. Penguin Books
W.B.Yeats. Collected Plays. Published by: PAPERMAC (3
التعليقات