الحلقة الأولى:
الانتخابات الرئاسية االلبنانية
تحت مطارق الداخل المتعددة وسندان الخارج الصلب

الحلقة الثانية
لا يخلط بين ميزاني القوة والضجيج
بطرس حرب مرشح اللبنانيين

الحلقةالثالثة
جنرال الحروب ومرشح الرئاسة
ميشال عون فارض اسمه على الجميع

الحلقة الرابعة
نسيب لحود رئيساً

الحلقة الخامسة
رياض سلامة: الرئيس التكنوقراطي
تطييف المال والأعمال

الحلقة السادسة
إدّه رئيس اللاسلم واللاحرب

فصلوا قانون الانتخابات اللبنانية ليناسبه
الجمهورية على قياس جان عبيد ليكون رئيساً


بلال خبيز من بيروت :عاد اسم وزير الخارجية اللبناني السابق جان عبيد إلى التداول في بورصة الأسماء المرشحة للرئاسة اللبنانية خلفاً للرئيس اميل لحود. كان وقع الاسم قد خفت بعد التمديد للرئيس الحالي. فالوزير السابق كان يومها، مرشحاً مثالياً للمنصب، وكان اسمه متداولاً بقوة نظراً لعلاقاته التاريخية بحزب البعث في سورية، حيث ترقى هذه العلاقة في تاريخها إلى خمسينات القرن الماضي يوم كان لا يزال السيد عبيد صحافياً. ومنذ بدايات عمله الصحافي كان جان عبيد موالياً للتيار العروبي في لبنان، وساهم في إدارة تحرير احدى الصحف التي كانت تنطق بلسان البعث في اواخر الستينات وأوائل السبعينات. هذا الرجل الذي يعتبر مرجعاً في حفظ الشعر العربي القديم، ومتحدثاً لبقاً وخطيباً بارعاً، والذي لم يغير ولاءه لسورية ولم يعرف عنه انقلاباً عليها، لم يكن يوماً خياراً سورياً اولاً في الوصول إلى سدة الرئاسة. إذ لم يعرف عن الرجل انه انه يمثل شريحة واسعة من الموارنة في لبنان، ولم يتبوأ مناصب تخوله تمتين شعبيته وبناء زعامته. إلى حد انه في انتخابات العام 2000 لم يكن يستطيع ان ينافس خصومه على اللوائح الانتخابية المنافسة في مناطق جبل لبنان او شماله، بل جاء قانون الانتخاب ليلحظ مقعداً مارونياً في دائرة طرابلس، سمي فيما بعد مقعد جان عبيد. وهذا المقعد يتحكم في فرص نجاح المرشح إليه ناخبون من أهل السنة، والذي يشغله اليوم النائب الياس عطالله، بعدما لم يحسن عبيد تقديم نفسه على نحو مفيد للزعامة السنية المتجددة بعد اغتيال رفيق الحريري، فتم حذفه من عداد اللائحة.

وصل جان عبيد إلى قمة نجاحاته السياسية في آخر ايام العهد السوري حيث شغل منصب وزير الخارجية في آخر حكومات الرئيس رفيق الحريري. ويروي جميل السيد ان جان عبيد كان مرشح الرئيس الحريري لخلافة لحود، وهو صديق سورية كما يعرف الجميع. والحال، لم يكن خافياً ان الوزير السابق جان عبيد كان على علاقة ودية طيبة مع الرئيس الراحل رفيق الحريري، في الوقت الذي حافظ فيه على كل حبال الصلات المعقودة مع الإدارة السورية التي كانت مهيمنة على لبنان.

لهذا السبب جرى التداول في اسمه خلفاً للرئيس لحود، وتجنباً للتمديد الذي اصر عليه الرئيس بشار الأسد في ما بعد، وتجرع القادة السياسيون في لبنان سمه الزعاف. لم يشأ المسؤولون السوريون التخلي عن اميل لحود رئيساً، ترتيباً لتسوية ما تحفظ مصالحهم في لبنان وتأخذ في اعتبارها بعض المصالح اللبنانية الوازنة. والأرجح ان الإدارة السورية كانت تراهن على ما تم بناؤه من سطوة لرجال الأمن والمخابرات التابعين لها والمؤتمرين بأمرها في لبنان في مواجهة القيادات السياسية التقليدية، وفي مقدمها الرئيس الحريري. فلم ير اهل الحل والربط في دمشق يومها فائدة تذكر من الإقرار بهزيمة المشروع الأمني بعدما انفض عنهم معظم حلفاء سورية السابقين وفي مقدمهم وليد جنبلاط. واستمروا في خوض معركة الرئيس لحود ونظامه الأمني حتى النهاية وما زالوا مستمرين في هذه المعركة حتى اليوم. فبالنسبة للإدارة السورية يومذاك، لم يكن التخلي عن لحود يعني اقل من انتصار كاسح للرئيس الحريري على ممثل النظام السوري الأول في لبنان، ومعتمده الأساسي. بمعنى ان الرئيس لحود هو السياسي الوحيد الذي نجح في لبنان في انشاء قوة مشاكسة وقوية الشكيمة تعود ملكيتها مباشرة للمخابرات السورية. ذلك ان القاصي والداني يعرفون ان زعيماً مارونياً مثل سليمان فرنجية يستطيع ومن دون كبير عناء ان يغير ولاءاته من جهة إلى أخرى. ذلك ان عزوته وجمهوره يوالونه ومن خلاله يوالون من يواليهم هو نفسه. وهذه هي، أيضاً، حال معظم الزعماء اللبنانيين الذين يملكون قاعدة شعبية حاشدة. وحده نظام الرئيس لحود كان مرتبطاً من قمته حتى قاعدته وكادره الوسيط بالمخابرات السورية، وكانت الإدارة السورية تستطيع ان تتدخل في شؤونه طولاً وعرضاً. لذلك بدا خيار لحود خياراً حاسماً في تلك اللحظة.

من نافل القول ان ترئيس جان عبيد بدلاً من التمديد للحود كان يعني في نهاية المطاف حفظاً لبعض مقومات الشأن الداخلي في لبنان، وتقريراً لواقع سياسي، كانت تحجبه العنتريات الامنية المتفاقمة. والأرجح ان مثل هذا الإقرار كان يعني بالنسبة للإدارة السورية ان الحريري الذي استطاع هزيمة لحود داخلياً وشعبياً يتجه إلى تقرير واقعة تتعلق بتجديد الشراكة في حكم لبنان بين الإدارة السورية والحريري ومن يتحالف معهم في لبنان. ولم يكن هذا الأمر اقل من إقرار سوري مباشر بهزيمة أولى تعقبها هزائم أخرى تمهيداً لجعل الشريك الأكبر في إدارة الشأن اللبناني شريكاً اصغر وانقلاب الموازين على نحو فادح، وصولاً إلى طرده من دائرة التأثير على نحو لا يستطيع العودة معها.

إذاً، والحق يقال، كان وصول عبيد إلى سدة الرئاسة اللبنانية في تلك الأيام الحوالك من تاريخ البلد، بين عامي 2004 و2005، نوعاً من التسوية بين الداخل اللبناني الناشط والصاعد والخارج السوري المهيمن والذي لا يملك الكثير من مقومات هيمنته، غذا استثنينا الجغرافيا ووقائع الديموغرافيا اللبنانية التي استجدت بعد الحرب الأهلية. تسوية تقضي باعتراف متبادل بمصالح الطرفين وتنصيب صديق مشترك في أعلى هرم الدولة عملاً بمقتضى هذه الوقائع الدامغة. مما يعني ان حظوظ السيد عبيد تقوى وتتزايد ما ان يتم مثل هذا الاعتراف المتبادل. لكن وقائع الشهور السابقة اثبتت ان سورية لا تريد ولا تقبل بأقل من عودة لبنانية جامعة إلى حضنها القامع، وتوبة الذين استعدوها واتهموها وهللوا لخروجها عن فرحتهم بخروجها وعن تطلبهم الحفاظ على مصالحهم. مما يعني ان الناخب اللبناني بعيد كل البعد عن القبول بتسوية من هذا النوع ما دام الناخب السوري لا يريد ان يعقد هذه التسوية حتى الآن.

تأسيساً على موازين القوى هذه، يبدو حظ السيد جان عبيد، الذي اضطر في انتخابات العام 2005 إلى الانسحاب من معركة الإنتخابات النيابية نظراً لحراجة موقعه في تلك الأثناء، قليلاً بالمقارنة مع مرشحين آخرين لهذا المنصب. ثمة مياه غزيرة جرت تحت جسور موازين القوى منذ العام 2005 وحتى اليوم، وما كان مقبولاً يوم كان الجيش السوري مرابطاً في الداخل اللبناني، لم يعد مقبولاً اليوم على الأرجح. وان تسوية متجددة مع النفوذ السوري في لبنان والذي لا يزال فاعلاً وقوياً قوة لا يستهان بها، ستنتج مرشحاً آخر اكثر قرباً إلى الشأن اللبناني من عبيد نفسه، وأوسع قاعدة شعبية، واقل اعتماداً على الدعم السوري الآفل.