إيلاف على كرسيّ الاعتراف 3-9
اعترافات محرر لا يُرضي الحكومات ولا المعارضين
وعودة مجدداً إلى سؤال الهوية المهنية، فالمتابع للصحافة الإليكترونية يتوقع منها جديداً كل لحظة، وأن تستفيد من مزايا شبكة الإنترنت التي لا تخضع لقيود مساحة الورق وأعباء الطباعة والتوزيع، وبالتالي فإن المتلقي يتوقع من موقع خبري إليكتروني، أن يطلعه على آخر الأنباء وكافة التفاصيل في آنٍ واحد، ومن هنا يبدأ مأزق الصحافي الذي قيضت له الأقدار أن يعمل مبكراً في حقل النشرالإليكتروني.
ومن هنا بدأ الوعي بالأخطاء المهنية، التي تفرض درجة نضج المرء عليه ألا يستشعر خجلاً من الاعتراف بها على الملأ، لأن الصحافي في نهاية المطاف لن يكون شيئاً يذكر على صعيد المهنة دون تشجيع قرائه، وثقتهم بنواياه وقدراته المهنية وكفاءته، فضلاً عن مرونته الذهنية التي تسمح له بتصحيح مساره الفكري والمهني لو اكتشف أخطاءه، بدلاً من اللجوء إلى منطق التبرير والمكابرة.
اللهاث والعمق
شخصياً وجدت نفسي ممزقاً بين quot;مهمةquot; اللهاث وراء الأنباء الطازجة من جهة، وبين quot;ذائقةquot; التوسع في التفاصيل والتحليل والخلفيات من جهة أخرى، وبتعبير آخر بين الاستعداد الذي يتكون بمرور الوقت لدى صحافي الوكالة الذي يسابق الزمن لنشر كل خبر جديد، وبين صحافي المجلة (الماغازين) الذي يركز على التفاصيل وراء الأنباء وخلفياتها، وربما لهذا السبب ارتكبت عشرات الأخطاء، إذ استغرقتني التطورات والأحداث عن الخوض في التفاصيل، التي ربما يهتم بها القارئ أكثر من مجرد النبأ العاجل، وهي أيضاً ـ وأقصد مرحلة ما بعد الخبر ـ أكثر ما يميز أي وسيلة إعلامية، فالخبر بعد وقت يطول أو يقصر، يصبح مشاعاً للجميع، لكن تبقى التفاصيل والتحليل بوابة الفهم العميق للحدث، لهذا لا أجد غضاضة في الاعتراف بخطأ الاستغراق في اللهاث وراء الحدث اليومي، على حساب القصة المعمقة الموسعة، رغم أنني بين الحين والآخر انتبه لهذا الخطأ، فأعمد إلى كتابة القصة الخبرية، التي تلعب دور البطولة فيها التفاصيل واللغة الأنيقة والتواصل الحميم.
هذا الأمر أوقعني أيضاً في نوع آخر من الأخطاء، وهو عدم التدقيق بالقدر الكافي في الملابسات والتفاصيل، فتحت سياط السباق الخبري حدث أن بادرت إلى النشر قبل الحديث مع عدد كاف من المصادر ذات الصلة بالأمر، وتوثيق المزيد من الأحداث، وإجراء البحث الأكثر تعمقاً حول خلفيات القصة الخبرية وغيرها من مقتضيات التدقيق والتعمق التي لا تتيحها طاحونة إنتاج الأخبار اليومية على نحو لا يعرف المساحة، ولا يتقيد بدورة الطباعة اليومية، كما هو حال زملائنا في الصحافة الورقية، الذين يستمتعون برفاهية التركيز في قصة واحدة يومياً، وعلى الأكثر اثنتين في أحوال استثنائية.
ثقافة الشخصنة
هذا اللهاث البغيض إلى قلبي ـ إذ لا أزعم أنني أحبه كما قد يتشدق البعض ـ حرمني وحرم القراء أيضاً من إجراء عدد كاف من الحوارات والمقابلات، فإجراء مقابلة واحدة أمر قد يستغرق يوماً كاملاً في مدينة مثل القاهرة، لا تحتمل ظروف الحركة فيها أكثر من مشوار وحيد يومياً، فمعنى ترتيب لقاء مع مصدر ما، يترتب عليه ضياع يوم كامل بين التوجه للمقابلة ثم إجراؤها وبعد ذلك تفريغها في نص مكتوب، وبعد ذلك تنسيقها واستخراج العناوين المعبرة والمثيرة في آن، وبعد كل هذا لن يتبقى وقت ولا جهد لمتابعة الأحداث في بلد مثل مصر، مازال رغم كل شئ من أهم مراكز صناعة الأحداث في المنطقة، إذ يكاد لا يمضي يوم واحد من دون أحداث تستحق التغطية والمتابعة.
ولما كنا بصدد quot;جلسة عترافquot; مع القارئ الذي هو سيدنا وتاج رؤوسنا، فلا مناص من الاعتراف بخطيئة ـ أقاومها كثيراً وبكل إصرار ـ وهي تحييد الآراء الشخصية؛ فيحدث بين الحين والآخر ان quot;يتلونquot; التقرير بذائقة محرره حتى لو كانت لصالح قضايا يعتقد المرء صادقاً بعدالتها، لكن يحدث هذا لأننا في نهاية المطاف أبناء quot;ثقافة الشخصنةquot; التي لا تعول كثيراً على مسألة الموضوعية ومن الصعب لمن نشأ في بيئة ثقافية تجري فيها quot;شخصنةquot; كافة القضايا، بدءاً من أحوال الأسرة، مروراً بمشكلات العمل في أي مجال، ووصولاً إلى الشؤون العامة والسياسات العليا للدول، فالخبرة الشخصية للرئيس والوزير أو حتى وكيل الوزارة تفرض نفسها على أدائه، بل ويصل الأمر أحياناً إلى حد ترتبط فيه بعض القرارات الهامة بالمزاج الشخصي، وبالتالي فإن الموضوعية تبدو كالاستقلالية التامة عن أجندات الدول والأنظمة حلماً مازال بعيد المنال، ومع ذلك أعتقد أن المخرج الوحيد للصحافي المخلص لمهنته، أن يكون قابضاً على استقلاليته، قدر الإمكان، حتى لا يتحول إلى بوق دعائي، أو سوط بيد أحد كائناً من كان، فالانحياز ينبغي أن يظل للحقيقة والمهنة بعيداً عن مؤثرات الترغيب والترهيب.
عوامون على البر
وعلى الرغم من بساطة الحديث في أمر كهذا، غير أن المثل الشعبي المصري القائل quot;إللي على البر عوامquot;، يعبر بشكل صادق عن هؤلاء القابعين خارج حلبة المعركة، ومع ذلك ينظّرون وينتقدون، ويرسمون صوراً خيالية، لأنهم ببساطة لم يكتتوا بنيران الخصومة والصداقة والمنافسة والتحديات التي يجد فيها المرء نفسه أمام لحظة quot;هاملتيةquot;، بمعنى أن يكون المرء أو لا يكون، مع أهمية الإشارة هنا إلى أن هذه اللحظة كانت السمة الأساسية في تجربة (إيلاف)، كأول صحيفة إليكترونية تصدر باللغة العربية وتستمر رغم تواضع إمكانياتها قياساً بصحف عتيدة تغفو تصحو على نهر من أموال الإعلانات ودعم الحكومات، وعلى الرغم أيضاً من تربص الأصدقاء والأعداء والأعدقاء، ومكائد الأنظمة والمعارضة من شتى ألوان الطيف، وكثيراً ما وجدتني بعد تغطية حدث ما مصنفاً في لائحة quot;المغضوب عليهم والضالينquot;، سواء من قبل النظام أو المعارضة على حد سواء، لدرجة كانت تربكني في البداية، إذ لم أضع نصب عيني سوى أن أكتب ما أراه وأسمعه وأستشعر صدقيته، غير أنه مع الوقت تعلمت أن يكون جلدي خشناً، فلا أرتبك من رد فعل الغاضبين، مادمت لم أتجاوز ما أعتقده الحقيقة.
أخيراً يبقى من حقي أن أحلم بالتفرغ ذات يوم لرصد أحوال ومتاعب المهمشين في الأرياف والقرى والبوادي المنسية، البعيدة عن صخب العواصم وحواضر الدنيا التي تستأثر وحدها باهتمام الساسة والإعلاميين والصحافيين ورجال المال والأعمال، أحلم بالسفر والعيش أياماً في القرى النائية بصعيد مصر، وواحات الصحراء الغربية، وبراري الدلتا والسواحل، وأعود بصيد ثمين مفعم بالإنسانية، ومسكون بروح نابضة بأحلام البسطاء وهمومهم، فإذا كانت الصحافة ببساطة هي quot;فن نقل الحياة إلى الناسquot;، فإنه سيكون من المحتم أن نكون أقرب إلى حياة هؤلاء الناس حتى نصل إليهم، ونعبر عنهم بصدق، ولا نراهم بعين السائح أو المسؤول الحكومي في شرقنا الأتعس.
وأخيراً أستميح سيداتي وسادتي القراء أن يغفروا لي زلاتي وأخطائي، مع وعد بأن أتعلم منها، وأتضرع إلى الله تعالى أن أجد يوماً فرصة مواتية لتحقيق حلم العمر بالتفرغ لعوالم المهمشين والمنسيين.. إنه على كل شئ قدير.
التعليقات