د. بهجت عباس
&
&
&
الخلية مجتمع متكامل قائم على نظام متوازن متناسق بين بلايين الجزيئات التي تنتشر فيها والتي تتأثر بالحوادث التي تصيبها، خارجية كانت أم داخلية. وهذا التأثير قد يكون طفيفاً لا يؤثر على كيانها، أو جسيماً يؤدي إلى الكارثة. هذه الحال تُشبه ما يحدث في المجتمع الواحد، إذ يتأثر تبعاً لما يُصيبه. فقد يكون الحادث غير ذي أهمية، كحريق بسيط في أماكن ليست ذات شأن، أو سرقات بسيطة، وقد تكون الحوادث بالغة الخطورة عميقة التأثير تؤدي إلى ضعضعته أو تغييره جذرياً، كطغيان الديكتاتورية الفاشية أوعصابات المافيا متنوعة المشارب والأهداف والأصول، كما حدث ويحدث في المجتمع العراقي المأساة. وفي الواقع أنَّ الخلية البشرية هي جذر المجتمع أو أصله، فبتغيير ما بها يتغيّر المجتمع، مثلما تذبل النبتة إذا أصاب جذرها أو عرقها التسوس. في الخلية البشرية تكون إدارة حاسمة صارمة تعمل ضمن قوانين تطبقها على محتوياتها بعدل ونظام دون تحيز أو محاباة، يكفل إستمرارها سليمة لتعمل بإخلاص لصالح الجميع، كإنتاج الطاقة اللازمة لبناء ما هي بحاجة إليه، أو لتعويض ما يُفقد وإصلاح (التلف) الذي يحدث نتيجة عوارض طارئة من الداخل أو الخارج. هذه الإدارة الحاسمة الصارمة البنّاءة هي الجزيئة العملاقة الواقعة في نواتها بإسناد الأخرى الواقعة في جسيمات الميتاكوندريا، التي قد يصل عددها الألفين، السابحة في السايتوبلازم، هذه الجزيئة الجبارة هي الـ دي. أنْ. أي. ( دنا DNA ). تتكون هذه الجزيئة من 3 بلايين وحدة زوجية نتروجينية تشكل خيوطاً رفيعة هي الكروموسومات التي تقع عليها الجينات التي تقوم بالإنتاج والسيطرة. ليست الجينات متساوية حجماً أو طولاً، فعدد الوحدات التي تتكون منها يكون متفاوتاً. لهذه الجينات خصائص عدة والوظائف مقسمة بينها، فكل يعمل عملاً مختلفاً عن الآخر، ولكن هذا لا يمنع من اشتراك جينين أو أكثر لإنتاج (مادة) واحدة هي البروتين. الواقع أنَّ هذا البروتين هو أهم من الجين الذي ينتجه، حيث يقوم بفعاليات مباشرة في الخلية، فعمل الجين الرئيس هو إنتاج هذا البروتين. يكون البروتين المُـنتَج فعالاً إذا كان الجين سليماً وصحيحاً. أما إذا كان المُـنتِج (الجين) مُـصاباً بمرض أو خلل، فالإنتاج يكون ضعيفاً أو شاذاً أو لا يكون ثمة إنتاج مطلقاً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إذا كان هذا الجين (متلاعباً) في الإنتاج، نتيجة شذوذ أو تغيّر في تركيبه، أيّـاً كان السبب، بحيث يؤثر على حياة الآخرين أو أعمالهم، فهناك مـن يساعده لإصلاح ذات الحال، إذا كان الإصلاح ممكناً، وإن لم يكنْ، فالموت يكون مصيره ورفاقه وأعدائه وكل ما حواليه. فالتضحية بالبعض، إذا كان هذا البعض غير ذي نفع وذا ضرر، ضرورة في سبيل بقاء الأكثرية.
&&& وكما يوجد رئيس للمجتمع أو قائد أو حاكم تحيط به حاشية من مستشارين ووزراء ومساعدين، مع منافسين وأعداء يعملون ضد مشيئته ومخططاته، يوجد في مجتمع الخلية ما يقابل ذلك أيضاً، ممثلاً بالجينات الرئيسة التي تُحكِم السيطرة على الجينات الآخرى وتهدد وجودها إذا اقتضى الأمر. وقد يكون الجين p53& الجين الرئيس مع إسناد جينات أخرى للقيام بهذه المسؤولية. أ ُكتشف هذا الجين عام 1993 وأطلقت عليه مجلة ساينس إسم (جزيئة العام)، وسـمِّيَ أيضاً حارسَ الجينوم (مجموعة الجينات في الخلية). فما هو هذا الجين وكيف يعمل؟
&
الجين p53

لم يُحظَ جين بدراسة واسعة وشاملة ومكثفة كما حُظِيَ الجين p53، حارس الجينوم هذا، أو المُسيطر على جينات الخلية، مراقباً أعمالها ونشاطها ومُصلِّحاً ونذيراً، وقد كُتب عنه ما يزبد على 4300 مقالة وبحث بين عاميْ 1993 و1997 فقط. إنَّ وظيفة هذا الجين هو مراقبة العمليات التي تجري أثناء انقسام الخلية. فإذا حصل خلل أو تلف في الدنا أثناء الإنقسام، يأمر الجينات الضالعة في الإنقسام بالتوقف حتى يتصلح الخطأ. وبعد إصلاحه يوعز إليهم بالإستمرار في الإنقسام. أما إذا كان التلف خطيراً لا سبيل& إلى إصلاحه، يعطي الإشارة إلى جينات تنفيذ الإعدام لقتل الخلية ويُقتل هو أيضاً. وتلعب الميتاكوندريا (بيت الطاقة) دوراً كبيراً في تنفيذ عملية الإعدام بإطلاق الجين باكس Bax& خميرة سايتوكروم سي C-Cytochrome الموجودة فيها إلى السايتوبلازم، والتي تنشط بدورها خميرة أخرى تسمى كاسبيس Caspase ، وهذه الخميرة تحرر خميرة أخرى من عقالها المرتبط بمثبط بروتيني، فتقوم هذه الخميرة المتحررة والمسماة Deoxyribonuclase بمهاجمة الدنا الموجودة في نواة الخلية وتقطعها إرباً إربا لتتحول إلى قطع صغيرة هي الجسيمات النووية& Nucleosomes فتموت الخلية، وتأتي الخلايا الملتهمة العملاقة Phagocytes فتلتهمها. وهي حال تشبه الإنتفاضات الثورية التي تعصف بالدكتاتورية والأنظمة المتحجرة العفنة. فبموت الخلية يموت الجين p53 معها، ولذا قد سُـمِّيَ أيضاً بـ (الجين الإنتحاري). فهو يضحي بنفسه لئلاً (تتولّد) خلايا مشوَّهة / شاذة تتحول إلى سرطانية، وبذا يحول دون وقوع السرطان. تقع سلسلة الحوادث هذه أيضاً عند موت الخلية المُبرمَج، وهي حال طبيعية.
فالجين p53 بحاله الطبيعية ( السليمة ) يوقف الخلية عند المرحلة G1 المرحلة التي تسبق انقسام الدنا من دورة الخلية ( إنقسام الخلية ). ولما كان هذا الجين يُثبط تكاثر أو تشعب الخلايا الشاذة، فهو إذا يعمل كفرامل إضطرارية، ويمثل آلية للسلامة / الوقاية ضد السرطان.
&
آلية العمل

يقع الجين P53 على الذراع القصير للكروموسوم 17 وتكون أهميته في إنتاج بروتين يدعى باسمه، أي P53، ويتكون من 393 حامضاً أمينياً. الواقع أنَّ عمل الجين يعود إلى عمل هذ البروتين ذاته، حيث يرتبط هذا الأخير بالدنا، وهذا الإرتباط يُحفِّز جيناً أخر يُنتج البروتين P21. يتحد هذا البروتين مع بروتين (مُحفِّز) انقسام الخلية ويدعى cdk2، وعند اتحادهما لا تستطيع الخلية العبور إلى المرحلة التالية للإنقسام، يعني باللغة الدارجة ( يكلبجها )، فتموت.
&& أما إذا كان الجين P53 مشوَّهاً، فلا يستطيع إنتاج بروتين P53 للإرتباط بالدنا، ولذا لا يُنتَج البروتين P21، هذا البروتين الذي يعمل كـ (إشارة وقوف) لانقسام الخلية المشوهة، فعندها (تفلت) هذه الخلية من السيطرة، فتستمر في الإنقسام وتكون النتيجة إنتاج خلايا مشوهة / سرطانية.
&&& الجين P53 يقمع الأورام، وهذا يعني أنَّ عمله يمنع تكوّن الورم. يرث الشخص عادة نسختين من هذا الجين من الأبوين. أما إذا ورث نسخة واحدة من أحد الأبوين، أو ورث نسختين، واحدة منهما مشوهة (غير فعالة)، يكون عرضة للسرطان، لكون الجين مسيطراً وليس مُتـنحيا،ً وتكون الأورام في هذا الشخص منفردة متعددة في أنواع كثيرة من أنسجته الجسمية في أوائل حياته (البلوغ)، وهي حال نادرة تُعرف بـ (متلازمة لي- فراومني Li-Fraumeni Syndrome ).
&&& وقد وُجد أن تشوه هذا الجين يقع في أكثر من خمسين نوعاً من السرطان، ضمنها سرطان المثانة، الدماغ، الثدي، عنق الرحم، القولون، البلعوم، الكبد، الرئتين، البنكرياس، البروستات، المعدة والغدة الدرقية. ووُجد أيضاً أن سرطان القولون يقع عندما تكون قطعة من الذراع القصيرة للكروموسوم 17 مفقودة أو ممحـوّة. وعند فحص هذه القطعة، وُجد أنَّ الجين P53 يقع عليها مع جينات أخرى. وهناك جين يشبه الجين P53 في تركيبه وعمله يقع على الذراع القصيرة للكروموسوم 1 وقد سُمِّـيَ الجين P73، وقد وُجد في منطقة تكون ممـحُـوًّة على الأغلب من الذراع القصيرة للكروموسوم 1 في ورم الخلية العصبية Neuroblastoma. وقد بيَّن سي. أيْ. جوست ورفاقه عام 1997 أنَّ هذا الجين يُنشِّط استنساخ الدنا المستجيبة للجين P53 ويثبط تكاثر الخلية بطريقة مماثلة للجين P53 فيحدث التساقط ( موت الخلية المُبَـرمَج )، وهذا يعني أنَّ لهذين الجينين عملاً مشتركاً، أو أنَّ أحدهما يعزز الآخر.