شهد العراق خلال فترة السبعينات من القرن الماضي في ظل النظام البعثي تغييرات جوهرية على مختلف الصعد السياسية والإجتماعية والإقتصادية غيرت وجه العراق تماما، بعد أن برزت داخل المجتمع العراقي العديد من الظواهر الشاذة خصوصا على مستوى العلاقات الإجتماعية والسلوك الشخصي للفرد العراقي، وكانت تلك الظواهر غير مألوفة وغير معتادة في المجتمع العراقي،وكانت من إفرازات الحكم البعثي الذي عاد الى العراق مرة ثانية.
فمع حاجة النظام الى كسب أوسع فئات الجماهير الشعبية حول الحكم الجديد الذي كان مرفوضا الى حد بعيد من قبل المجتمع العراقي بسبب التجارب المريرة والمآسي الكثيرة التي عاشها العراقيون أثناء الإنقلاب الأول لحزب البعث من حيث الممارسات والجرائم الهمجية التي طاولت الكثير من فئات الشعب العراقي من أبرز مظاهرها،السحل في الشوارع الذي شكل ظاهرة غريبة تجسد قسوة العراقيين بأوضح معالمها أمام العالم،عليه كانت العودة الثانية لحزب البعث الى السلطة غير مقبولة شعبيا بسبب تلك التجارب، ولكن ضعف نظام عبدالرحمن عارف ساهم في التمهيد لتلك العودة،كما أنه بالنظر لدموية حزب البعث ووحشيته في التعامل مع أبناء الشعب،كان العراقيون عاجزين عن التعبير برفضهم لعودة البعث خوفا من بطش هذا الحزب بهم، فآثروا الصمت بانتظار حدوث إنقلاب جديد يطيح بهذا النظام كما حدث في 18 تشرين الثاني من عام 1963 بعد ستة أشهر من إستيلاء البعث على الحكم لأول مرة،ولعل هذا الموقف الشعبي الرافض هو الذي دفع بحزب البعث الى تكريس كل جهوده من خلال تسخير مقدرات الدولة التي وقعت بأيديه لوضع البرامج والخطط التي تحول دون حدوث إنقلاب جديد عليه كما حدث في عام 1963، ومع حاجة البعث الى كسب الجماهير الى صفوفه، لم تكد تمضي سنتان على عودته الى الحكم، وتحديدا في بداية السبعينات، خطط هذا الحزب للقيام بأوسع حملة تبعيث في تاريخ العراق، فسخر كامل إمكانيات الدولة لتحريك الجهاز الحزبي وسط الجماهير لكسب أكبر عدد ممكن من المؤيدين الى صفوف الحزب سواء بالترغيب المادي أو المعنوي أو من خلال الترهيب تحت طائلة الفصل من الوظائف وحرمان المواطن من فرص الدراسة أو التعيين في دوائر الدولة التي كانت تحتاج في تلك الفترة الى تأييد وعدم ممانعة الجهاز الأمني على تعيين أي شخص في أية وظيفة، وإعتبار موافقة دائرة الأمن شرطا أساسيا للتعيين في وظائف الدولة. وفي مجتمع إستهلاكي كالمجتمع العراقي فأن حرمان المواطن من الوظيفة الحكومية كان يعني إصدار حكم الإعدام بحقه وبحق عائلته أيضا لإنعدام فرص العمل في بقية المفاصل الإقتصادية بعد حملة التأميم التي طاولت العديد من مرافق القطاع الخاص وإلغاء تراخيص الشركات الأهلية.ولكن مع كل تلك الضغوطات الشديدة على المواطنين،وبذل كل وسائل الترغيب والترهيب لم يستطع حزب البعث إلا كسب عدد محدود جدا من الأشخاص الذين كانوا في معظمهم من المستويات الوضيعة أو الفاشلين في دراساتهم أو المنبوذين إجتماعيا، وكان هذا يشكل ناقوس خطر يهدد البنية الأساسية للمجتمع العراقي.
لقد كان المجتمع العراقي معتادا قبل وصول حزب البعث على أن يتبوأ مراكز ومناصب الدولة أشخاص من أبناء الذوات والعائلات المعروفة إجتماعيا، فمثلا كان مديرو البلديات في مدينة أربيل أو مدراء المالية أومعظم مدراء دوائر الدولة هم من أبناء العائلات الكبيرة في المدينة أو من الوجوه الإجتماعية المعروفة، ورغم أن ذلك لم يقلل من شأن أبناء الطبقات الفقيرة، إلا أن ذلك كان مفيدا لعدة أسباب.فمن جانب كانت المكانة الإجتماعية والوجاهة التي يتمتع بها مدير الدائرة تمنعه من تلقي الرشاوي أو بيع الذمة أو إختلاس أموال الدولة، ومن جانب آخر تمنعه من ظلم الناس أو التقصير في خدمتهم حتى لا يشوه سمعة عائلته في المدينة التي كانت العوائل تعرف بعضها البعض جيدا. وأود التنبيه مرة أخرى الى أن ما درجت عليه العادة في تلك الفترة بإناطة مسؤوليات دوائر الحكومة الى أبناء العائلات المحترمة والمعروفة في المدن، لم تكن على حساب بقية فئات وشرائح المجتمع، ولكن الكثرة الغالبة في تلك الفترة لصالح هؤلاء،كان يدفع بابن الفقير الذي يصل الى المراتب العليا بكده وسهره ودراسته الى الإقتداء بأبناء الذوات في إدارة الدائرة التي يتولى مسؤوليتها،وكان هذا التأثير إيجابيا لجهة الحفاظ على القيم الإجتماعية السائدة في تلك الفترة وإدامتها الى حين آخر، ولكن بعد أن قام حزب البعث بحملته تلك، قضى تماما على الحالة السائدة وجاء بحثالات الناس وأشرارهم ليسلمهم المسؤوليات الرفيعة في دوائر الدولة مع أن معظمهم كانوا من العائلات الوضيعة أو من أصحاب السوابق والفاشلين في الدراسة، فتسيدوا على الناس من خلال المواقع التي إحتلوها في مرافق الدولة.فكان خريج الدراسة الإبتدائية يفوق مكانة ومرتبة على الكثيرين من أصحاب الكفاءات والشهادات العليا بسبب موقعه الحزبي فحسب. وإذا أجرينا دراسة دقيقة وعلمية لنتائج تلك الحملة لتبعيث المجتمع العراقي، سنجد أن بوادر الهجرة من العراق بدأت بالظهور تحديدا في تلك الفترة،بعد أن تشوهت القيم الإجتماعية والتربوية وسط المجتمع العراقي.
ورغم أن فترة النصف الأول من السبعينات شهدت إستقرارا داخليا بفضل المصالحة التي جرت بين قيادة الثورة الكردية والحكومة العراقية على أمل تحقيق المطالب القومية للشعب الكردي، حيث سادت هدنة بين قوات البيشمركة وقوات النظام بصدور بيان 11 آذار، إلا أن تلك الإتفاقية التي وقعت على أساس إلتزام الحكومة بحل القضية الكردية والتي كان مهندسها صدام حسين شخصيا،كانت مجرد لعبة لعبها صدام لكسب بعض الوقت لصالح حزبه ريثما يستعيد بعض قوته ويشدد من قبضته على الحكم خاصة وأن الثورة الكردية في أواخر الستينات قد أشتد ساعدها وأصبحت قادرة على توجيه ضربات موجعة الى النظام الحاكم، فاضطر صدام الى التسليم بكل المطالب التي طرحها زعيم الثورة الراحل مصطفى بارزاني ولو الى حين. وأثبتت الأحداث اللاحقة أن نوايا صدام وحزبه لم تكن مخلصة لجهة تحقيق المطالب الكردية المشروعة، بل كان الأمر لا يتجاوز حدود كسب بعض الوقت بخداع الشعب الكردي وقيادته. ومعروف عن الشعب الكردي تاريخيا أنه معتاد على إعطاء ثقة غير مبررة للآخرين، وهي عادة يفسرها الكثيرون بالسذاجة بل وبالغباء أحيانا، ولكنها طبيعة معروفة عن الكردي على أي حال.فقد شهدت فترة الهدنة التي وقعتها القيادة الكردية والحكومة العراقية محاولتين لإغتيال قائد الثورة الملا مصطفى بارزاني، كانت الأولى في عام 1971 بعد عدة أشهر من توقيع الإتفاقية التي لم يجف حبرها بعد،والثانية عام 1973،مما أفقد ثقة القيادة الكردية بنظام البعث، ولكن المشكلة أن تلك القيادة لم تكن قادرة ومهيئة بعد لإلغاء الإتفاقية على عكس النظام البعثي الذي أكمل كل إستعداداته لمواجهة جديدة مع قوات الثورة الكردية.
وفي تلك الفترة أيضا، عمد النظام البعثي الى خلق بعض الأزمات والمشاكل بهدف إشغال المجتمع العراقي بها وصرف أنظاره عن المخططات التي كان الحزب الحاكم يخطط لها في الخفاء من أجل ترسيخ أقدامه على الأرض وتشديد قبضته الحديدية على الحكم.
فقد ظهرت في تلك الفترة عصابة إجرامية عرفت باسم (عصابة أبو طبر) وكانت هذه العصابة تداهم بيوت المواطنين وتقوم بذبحهم أو قتلهم بالفؤوس، وروعت تلك الجرائم المجتمع العراقي برمته، حيث كانت أخبارها تنتشر في أرجاء العراق كالنار على الهشيم،ولم يعد يشغل الناس في جميع المدن العراقية سوى أخبار تلك الجرائم التي كانت تتوزع في بعض الأحيان على مدن أخرى غير العاصمة بغداد. وفي السنوات الأخيرة إنكشفت أسرار تلك العصابة وظهرت حقيقة أن تلك العصابة الإجرامية التي قتلت العديد من الناس لم تكن سوى مجموعة من رجال وضباط الأمن العامة التابعة للحكومة العراقية كانت تقوم بقتل هؤلاء الناس لترويع المجتمع العراقي وإلهائه عن الأزمات الحقيقية التي كانت تواجهه، وإن الجرائم التي ارتكبت كانت تطال في الكثير من الأحيان العوائل المعارضة للسلطة أو التي لا تخضع لأساليبها الإبتزازية في كسب الناس وشراء ولاءاتهم.
وراجت في تلك الفترة أيضا إشاعات حول وجود كميات هائلة من حنطة مسمومة في الأسواق، وهي أيضا أخذت وقتا أخر من إهتمامات المجتمع العراقي الذي إنشغل بالحديث عنها في كل مكان لفترة محددة. ثم جاء الدور على المصارع العالمي عدنان القيسي الذي كان يهزم أعظم أبطال المصارعة في العالم،وهو بدوره أشغل ببطولاته الخارقة المجتمع العراقي لفترة أخرى أمتدت لسنتين قبل أن يأخذ أموالا طائلة معه ليتقاسمه مع (ابطال العالم!) الذين لم يكن العراقيون يسمعون ببطولاتهم في الخارج.
كانت تلك المخططات التي إنطلت في الحقيقة على الكثيرين من أفراد المجتمع العراقي على رغم سذاجتها،أخذت منهم قسطا كبيرا من الوقت كان الحزب الحاكم ينشغل في الخفاء من خلاله بتصفية خصومه السياسيين وبتشغيل الآلة الحزبية للتغلغل في دوائر ومؤسسات الدولة وتبعيث المجتمع العراقي.
استمر الحال الى حين آخر جولة من المفاوضات مع القيادة الكردية مع بداية عام 1974، حيث أصبحت تلك المفاوضات الحدث الأهم والأبرز في تلك السنة أشغلت معظم فئات وشرائح المجتمع العراقي، حيث ترد أخبار غير مطمئنة حول التوصل الى إتفاق سلام بين الشعب الكردي والحكومة العراقية وكانت نذور الحرب والقتال بدورها تقترب رويدا رويدا مع تبادل الوفود الكردية والحكومية، فقد تنصلت الحكومة العراقية عن الكثير من إلتزاماتها تجاه بيان 11 آذار، خاصة بعد أن تمكنت من كسب ود الإتحاد السوفيتي زعيمة المعسكر الإشتراكي الى جانبها وثم إستدراج الحزب الشيوعي العراقي الى ما كانت تسمى بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية، وكان هذا أيضا كمينا نصبه لهذا الحزب كما بينت الأحداث ذلك في السنوات التالية.وإنتهت فترة الهدنة بعد أن استقوى النظام الحاكم بدعم السوفييات له جراء الرشاوى النفطية وصفقات السلاح الباهضة التكاليف التي وقعتها مع الإتحاد السوفيتي التي كانت تسيل اللعاب، وكذلك بعد تصفية معظم خصوم البعث وكسب الكثير من الأعضاء الجدد الى جانب الحزب والنجاح الكبير الذي حققه الحزب في تبعيث الجيش العراقي الذي بات مهيئا لمعاودة القتال مع الثوار الأكراد. وهذا سيكون موضوع الحلقة القادمة إن شاء الله.
شيرزاد شيخاني
التعليقات