الانتصار الذي حققته حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية هو انتصار للديمقراطية وهو في نفس الوقت ورطة لحماس ومأزق خطير لن تخرج منه حماس منتصرة انتصارا حقيقيا إلا إذا انتصرت للديمقراطية التي أوصلتها للسلطة، وذلك لن يتم إلا بعد أن تتمرد حماس على أيديولوجية الجماعات التي تتناقض مع مبادئ الديمقراطية، وتتنافى مع قواعد اللعبة السياسية العالمية التي تدعو الشعب الفلسطيني إلى القبول بإسرائيل كدولة لها الحق في الوجود.

وقبول حماس بمبادئ الديمقراطية التي أوصلتها إلى السلطة يعتبر أحد عوامل ورطة حماس، خاصة في ظل الاعتراف بالهزيمة الانتخابية من قبل منظمة فتح التي تتربع على السلطة منذ عقود. كما أن الاعتراف بإسرائيل يعتبر العامل الثاني للورطة quot; الحماسية quot; كون ذلك سوف يدفعها أن تقبل بشروط السلام الذي قبلت به فتح حين كانت حماس تعارض كل مبادئ السلام مع إسرائيل وتتبنى لغة التفجير والمواجهة لتخريب كل تفاوض فلسطيني إسرائيلي.

فإذا سارت حماس على طريق السلام الذي سارت عليه منظمة التحرير الفلسطينية، فسوف يتساءل الناس عن السر وراء رفض حماس لعملية السلام التي قادها الرئيس الراحل ياسر عرفات وراح ضحية لها، ومن ثم القبول بشروطها مجرد أن استلمت حماس السلطة بعد أن قدم الشعب الفلسطيني الكثير من التضحيات الكبيرة. وإذا رفضت حماس الاعتراف بإسرائيل و بشروط السلام، فإن ذلك سوف يضع الشعب الفلسطيني في مأزق خطير سوف يجر على الفلسطينيين المزيد من الحروب والفقر وغيرها من المشكلات الاجتماعية والأمنية والاقتصادية. وقد بدأت بوادر تلك الضغوط تلوح في الأفق بعد تهديد الدول الداعمة بقطع المعونات المالية إلى الشعب الفلسطيني إذا لم تعترف حماس بإسرائيل.

ميزة انتصار حماس الديمقراطي : أنه منح الفرصة لحزب ديني أن يتسلم السلطة عبر الآليات الديمقراطية الانتخابية وتحت شروط اللعبة الديمقراطية. بحيث لا يستطيع الحزب المنتصر أن يتحول فجأة إلى دكتاتورية مطلقة، ولا يستطيع أن يسير بالشعب إلى الهاوية. وإذا ما شعر الشعب أن الحزب الذي وصل إلى السلطة عبر أصواته الانتخابية لن يقودهم إلى طرق النجاة والأمن والحرية، فسوف يتخلى عن ذلك الحزب عبر الآليات الديمقراطية نفسها التي أوصلت الحزب إلى السلطة.

الانتصار الذي حققته حماس في الانتخابات الفلسطينية : انتصار للديمقراطية وورطة ومأزق كبير لكل من وصل إلى السلطة عبر الوسائل الديمقراطية وهو لا يؤمن فيها !

أما إذا استغلت حماس هذا الانتصار الديمقراطي الذي استحقته بناء على أصوات الأغلبية الفلسطينية الساحقة، وعرفت كيف تستثمر ذلك الانتصار لصالح تطور الشعب الفلسطيني وحريته حسب الظروف المهيأة لذلك الشعب ودون الخضوع لفكر ايديلوجي غيبي يجعل الشعب الفلسطيني يستمر في نزف الكثير من الدماء ويخسر المزيد من الأرض والهوية، فإن حماس سوف تثبت للناس الذين انتخبوها مدى نضجهم وبعد نظرهم، وصواب توجههم لصناديق الاقتراع لانتخاب حماس عبر آلية ديمقراطية حقيقية تثبت أحقية الشعب الفلسطيني بانتمائه إلى حضارة الشعوب الحرة التي تقرر مصيرها عبر صناديق الاقتراع وليس عبر بنادق الكلاكنشوف.

ولكن لو لم تستطع حماس أن تحقق طموحات الشعب الذي انتخبها على رأس سلطته، فسوف تخضع من جديد لعملية الاقتراع الانتخابي وسوف تتسلم السلطة قوة حزبية أخرى. إلا أن حماس لن تستطيع ممارسة لعبتها الأولى في الوقوف أمام قرارات السلطة البديلة مثلما كانت تفعل في السابق. وسوف تضطر حماس أن تخضع لخيار الشعب الفلسطيني مثلما اضطرت فتح أن تخضع لخيار الشعب في انتخاب حماس كسلطة جديدة.

هذا ما كنت أتمناه منذ أن تم انتخاب الشعب الجزائري لجبهة الإنقاذ في الجزائر... أن يتم إعطاء الفرصة للأحزاب الدينية أن تصل إلى السلطة عبر الآلية الديمقراطية. لأن الديمقراطية نظام رائع تستطيع جماعة أو حزب أن تصل إلى السلطة عبرها، لكنها لاتستطيع أن تبقى مدة طويلة دون أن تعمل ما يخدم مصلحة الشعب والوطن ويدعم حقوقه ورفاهيته وحريته. ومثلما وصل أي حزب إلى السلطة بالوسائل الديمقراطية، فإن إزاحته تسهل عبر نفس الوسائل الديمقراطية عندما يخفق ذلك الحزب في إدارة الدولة.

وعصرنا الحاضر : هو عصر الديمقراطية، ولا تستطيع جماعة أو حزب أن تصل عبر الديمقراطية إلى الحكم ثم تنقلب على أسس الديمقراطية. لأن العالم سوف يعمل على محاربة ذلك الحزب أو تلك الجماعة التي تحولت من جماعة أو حزب يصل إلى الحكم عبر الآلية الديمقراطية ثم يحكم بالطريقة الدكتاتورية.

إن المأزق الخطير الذي سوف يهزم كل فكر غير ديمقراطي حتى وإن تقمص عباءة الديمقراطية : هو أن يصل حزب ما أو جماعة إلى الحكم عبر الوسائل الديمقراطية وهو ينوي الانقلاب على قرار الشعب الذي أوصله إلى السلطة بهدف الحكم بطريقة غير ديمقراطية.

كما أن القبول بشروط العملية الديمقراطية من قبل تلك الأحزاب والجماعات التي لا تؤمن في فكرها وأيديولوجيتها بمبادئ الديمقراطية الحقيقية هو أخطر المآزق التي سوف تقضي على فكر تلك الايديلوجيات التي لا تؤمن في الديمقراطية إلا كوسيلة ميكافيلية للوصول إلى غاية السلطة.

إن الغاية الميكافيلية التي تبرر وسيلة الديمقراطية للوصول إلى كرسي الحكم لم تعد تجدي في حضارة القرن الواحد والعشرين وفي عصر العولمة الديمقراطية، بقدر ما سوف تقضي على كل متحايل على حضارة العصر وإحالته إلى مخلفات القرون الماضية كعبرة للذين لا يعتبرون من التاريخ، ولا يؤمنون في المستقبل، ولا يملكون إرادة التغيير حسب المتغيرات الكونية.

الذين يعتقدون أنهم سوف يتحايلون على إرادة الحياة.. لا إرادة لهم، ومهما أتت إليهم فرصة الإنقاذ تجري إليهم، فإن ذلك لايعني أنه النصر الحقيقي. بل ربما هي الفرصة الأخيرة لإثبات أنهم يستحقون البقاء والتأثير أو لا يستحقون، ومثلما يقول شكسبير quot; تكون أو لاتكون تلك هي المسألة quot;.

بعض الفرص : ليست بالضرورة دليل على الانتصار بقدر ماهي اختبار لكشف حقيقة الناس ونواياهم.

فهل تثبت حماس أنها جديرة بأصوات الأغلبية الفلسطينية، أم أنها ستخفق في الحكم وكأنها تقول للناس أنها لا تستطيع أن تنجح سوى في ممارسة الاعتراض والتخريب الخفي لكل المشاريع التي تنقذ الإنسان من نزف الحروب ؟!

حماس : مقياس لكل الجماعات الدينية التي تسعى للوصول إلى السلطة. فإذا ما نجحت حماس في حكمها للشعب الفلسطيني فسوف تصبح مثالا رائعا لكل الأحزاب والجماعات الدينية الطامحة للوصول إلى السلطة، وإذا ما فشلت فسوف تفتح الطريق واسعا جدا لكل الأحزاب الليبرالية أن تقود الشعوب العربية نحو الديمقراطية الحقيقية.

وليعلم الجميع أن انتصار حماس : هو انتصار لليبرالية التي تتبنى الفكر الديمقراطي وتحرمه كل الأيديولوجيات الدينية، حيث لم تصل حماس إلى السلطة إلا عبر آلية الديمقراطية الليبرالية.

وأن فشل حماس : هو أيضا انتصار لليبرالية، وسوف يكون البداية غير الخجولة لانطلاقة الليبراليين نحو شعوبهم للتعبير عن فكرهم الحر الذي سوف يقود الشعوب العربية في العقود القادمة.

هذه ميزة الديمقراطية... أنها تمنح الحكم للأفضل بعد أن تعطي الفرصة للجميع كي يحكموا، ولا تدع مجالا لأحد أن يحكم عبر آلية العنف، ما دام أن صناديق الاقتراع مفتوحة.

كما أنها تحمل الشعب مسئولية ما سوف يحصل له تحت حكم الحزب الذي انتخبه ذلك الشعب ليصل إلى السلطة. ونتائج الاقتراع ليست فقط تحدد المنتصر في الانتخابات، وإنما تبين مستوى ما وصل إليه الشعب من نضج، ووعي، وتحدد قدرة الشعب على قيادة نفسه عبر اختياره لمن يقوده من المرشحين الذين هم إفراز لوعي الأغلبية ومثال لفكره. أي أن حماس لن تتحمل مسئولية الفشل لا قدر الله، وأي نصر حقيقي سوف تحققه هو نصر للشعب الذي انتخبها.

ما أعظم الديمقراطية... ستكشف لنا حقيقة الشعب الفلسطيني !

الديمقراطية : لغة الحوار والورود...

والدكتاتورية : لغة القمع..الرصاص..

والمستقبل : للشعوب الحرة !!

سالم اليامي

[email protected]