معاهدة الجزائر وإنهيار ثورة أيلول

في السادس من آذار من عام 1975 وقع صدام حسين مع شاه إيران محمد رضا بهلوي معاهدة في قمة الجزائر للدول المصدرة للنفط أوبك بوساطة من الرئيس الجزائري هواري بومدين عرفت في الأدبيات السياسية الكردية بإتفاقية الجزائر المشؤومة التي أدت الى إنهيار الثورة التحررية الكردية، حيث قدم صدام حسين الذي كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة حينذاك وهو أعلى سلطة تشريعية في البلاد تنازلات مشينة عن مساحات واسعة من الحدود البرية والبحرية للعراق مقابل إيقاف الشاه دعمه للحركة الكردية بقيادة الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني الذي يدأ ثورته في عام 1961.
ويتذكرالأكراد بحزن بالغ ذلك اليوم المشؤوم في تاريخهم الحديث، فقد كانت الثورة الكردية عنده في أوج قوتها بشكل لم يسبق له مثيل طوال القرون التي شهدت ثورات وحركات تحررية كردية، فقد كان هناك جيش من البيشمركة قوامه ربع مليون مقاتل توزعوا على الجبهات العريضة المواجهة لقوات الجيش العراقي التي كانت تتشكل من عدة فرق عسكرية معززة بالطائرات والدبابات والمدرعات. وشارك في تلك الجولة من الحرب العنصرية لقوات النظام البعثي على جبهات البيشمركة معظم تشكيلات الجيش العراقي التي تسلحت بأسلحة سوفياتية حديثة الصنع حصل عليها العراق بعد توقيعه لمعاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفييتي.
وقدرت بعض المصادر عدد أفراد الجيش الذين زجهم النظام في حربه العنصرية منتصف شهر آذار من عام 1975 بأكثر من 200 ألف جندي وضابط معززين بألفي دبابة ومدرعة ومدافع ثقيلة ومتوسطة و70 طائرة عسكرية من مختلف الأنواع خصوصا السوخوي والميك الروسيتين والباجر الهندية الصنع من طرازات حديثة، يقابلهم في جبهة المواجهة المقاتلون البيشمركة ببنادق خفيفة من نوع البرنو وعدد صغير من الرشاشات المتوسطة ولكن بعزيمة قوية إستطاعوا بها أن يصدوا الكثير من هجمات قوات النظام الدكتاتوري على جبهات القتال.
ومع دخول المدافع الإيرانية ومضادات الجو الأمريكية المتطورة التي أرسلها شاه إيران الى ساحة القتال في حرب غير مباشرة مع القوات العراقية، ترجحت كفة الميزان العسكري لصالح البيشمركة الذين وجهوا ضربات مؤلمة الى قوات النظام وكبدونها خسائر كبيرة في الأفراد والمعدات إضطرت القيادة السياسية العراقية تحت الضغط العسكري في الجبهات الى البحث عن حلول سياسية للخروج من المستنقع الكردي.
وإعترف الرئيس العراقي بعد سنوات من إنهيار الثورة الكرديةquot; أن القوات العراقية لم تكن تملك عشية التوقيع على إتفاقية الجزائر في مخازنها سوى16 ألف اطلاقة بندقية، ومخازن خاوية من قذائف المدفعية والهاونات وقنابل الطائراتquot;.وهنا قد يصدق قول البعض ممن درسوا أو تعمقوا في أسباب أنهيار الثورة، أنه لو واصل الملا مصطفى البارزاني حربه ضد النظام لكان حقق أعظم إنتصارات الشعب الكردي على النظام البعثي، وكان بذلك سيسقط نظام بغداد.ولكن وكما يقول المثل(أن حساب الحقل لا يطابق حساب البيدر دائما )، أو كما يقال( من كان يده في النار ليس كمن يده في ماء) فالبارزاني أدرك مبكرا عقم مواصلة القتال مع الحكومة العراقية لعدة أسباب نجملها بالنقاط التالية:
1-كانت للمعاهدة التي وقعها شاه إيران مع نظام البكر-صدام عدة ملاحق سرية غير معلنة تنص بمجملها على التنسيق في المجالات العسكرية مثل غلق الحدود أمام تحركات قوات البيشمركة الكردية في حال أصرار الملا مصطفى على مواصلة القتال، و تشديد الضغط من الجانب الإيراني على قيادة الثورة بإتجاه دفعها نحو العمق العراقي.
2-كان السوفييات بدورهم على الخط أسكرتهم الامتيازات الكبيرة التي حصلوا عليها في ذلك الوقت جراء معاهدة الصداقة والتعاون التي وقعوها مع نظام البعث وسال لعابهم للصفقات العسكرية التي أبرمها النظام معهم،مما زاد من دعمهم لنظام البعث الدكتاتوري في المحافل الدولية، رغم ما عرف عن السوفييات في تلك الحقبة من مناصرتهم لحركات التحرر في العالم الثالث، فقد تنكروا لتلك المباديء العظيمة بتقديم الدعم لجانب الحركة التحررية الكردية ورضوا لأنفسهم بالوقوف الى جانب أحد أكثر الحكومات الشوفينية والعنصرية إستبدادا وقمعا لحركة الشعب الكردي.
3-لم تكن الثورة الكردية التي أشعلها الملا مصطفى البارزاني منذ عام 1961 على خبرة كافية باسلوب حرب العصابات الذي نجح فيما بعد مع الثورة الجديدة التي أعقبت ثورة أيلول،ولم يكن ممكنا في ذلك الوقت الإستجابة لنداء بعض الأطراف القيادية في الثورة باللجوء الى ذلك الأسلوب كرد على المعاهدة الخيانية وإفشال تلك المؤامرة الصدامية الشاهنشاهية بمواصلة القتال من جديد مع القوات الحكومية، فقيادة الثورة لم تكن تدرك أو تشعر بحقيقة الموقف العسكري الضعيف لدى الجانب الأخر ومدى حراجة موقفه من حيث التجهيزات والأسلحة، ورغم مشروعية دعوات تلك الأطراف القيادية بمواصلة القتال، لكن في المقابل كان النظام قادرا على جمع فلوله وبدعم من التعاون العسكري الروسي إنزال هزيمة عسكرية بقوات الثورة التي لم تكن هي أساسا تمتلك خبرة في حرب العصابات.
4-كان البارزاني يدرك من خلال قراءته للمواقف المستجدة دوليا وأقليميا أنه افتقد الدعم الدولي لحركته، خصوصا من الولايات المتحدة التي باركت تلك المعاهدة نصرة للشاه، وكان يدرك أيضا أن شاه ايران لن يتقدم بخطوة بهذا الحجم الكبير الذي من شأنه أن يغير المعادلات السياسية القائمة في المنطقة من دون إستشارة الأمريكان لذلك،وأدرك أن مجرد توقيع الشاه على إتفاقية الجزائر يعني أن الأمريكان يدعمونه في هذه الخطوة وأنهم على إستعداد للتضحية بالثورة الكردية لأجل إرضاء طموحات حليفهم الإيراني في المنطقة، وعرف البارزاني أنه في ظل دخول السوفييات على الخط لدعم حليفهم الغني الجديد فإن الكثير من المعادلات السياسية في المنطقة ستتغير، عليه فإن مواصلة القتال ستكون مغامرة غير محسوبة النتائج، لذلك أمر بوقف فوري للقتال حرصا على إراقة المزيد من دماء أبناء شعبه في مواجهة لا طائل من ورائها في ذلك الظرف العصيب.
5-كان البارزاني وهو يدعو أبناء شعبه الى وقف المقاومة المسلحة وإلقاء السلاح يخطط في السر لثورة أخرى في ظروف قد تكون أنسب بعد أن يتفرغ من تسوية أمور مئات الآلاف من الشباب الكردي والعوائل النازحة الى إيران،وكانت له توجيهات الى قادة تشكيلاته ومنظماته الحزبية في المدن المحررة بحث المقاتلين للجوء الى إيران بدل العودة الى العراق ليكونوا تحت تصرفه عندما تعلن الثورة مجددا،فقد كان البارزاني يعمل على استئناف إتصالاته ببعض الدول والمنظمات الدولية الداعمة لحقوق الشعب الكردي، ويركز على التحركات الدبلوماسية تمهيدا لإعلان الثورة،وقد كان هذا التفكير الصائب منه له مردوداته الإيجابية على الشعب الكردي حيث بدأت تباشير الثورة الجديدة تظهر فعلا من داخل الأراضي الإيرانية وبالذات وسط القيادات والمقاتلين الأكراد الذين لازموا قادة ثورتهم السابقة في إيران ورفضوا العودة الى العراق، فقد بدأت المبادرة من عندهم وهم إتصلوا برفاقهم في الداخل لإعادة تنظيم صفوفهم وإرسال مقاتليهم الى جبال كردستان لإعلان ثورة جديدة بعد مرور سنة واحدة على إنهيار ثورة أيلول.
وشاء القدر أن يخسر الجانبان اللذان وقعا على إتفاقية الجزائر التي كانت فعلا شؤوما عليهما، وهما شاه إيران وصدام حسين، فلم تستمر نشوتهم بتحقيق نصر مزيف لكليهما على الثورة الكردية طويلا، فصدام حسين الذي كان مزهوا بنصره على الحركة التحررية بقيادة الملا مصطفى البارزاني سرعان ما عاد الى تمزيق تلك الإتفاقية(المعاهدة) أمام شاشات التلفزيون ليزج به العراق في أتون حرب كارثية مع ايران أدت الى قتل وجرح وتشريد مليونين من شعبه، وكبل العراق بديون تفوق 300 مليار دولار وهي التي دفعته الى إحتلال الكويت وجر البلاد الى حرب مأساوية هذه المرة كانت من تداعياتها سقوط نظامه في النهاية، أما شاه إيران فهو أيضا لما يكد يجني ثمرة الإنتصار على غريمه في المنطقة وهو النظام البعثي في العراق، حتى أطاحت به الجمهورية الإسلامية فنفي عن بلاده ومات شريدا وحيدا في المنفى. وبقي البارزاني وحركته التحررية هما الرابح الوحيد من تلك المعاهدة، حيث تجددت الثورة مرة أخرى بالإعتماد على ما تركه البارزاني من مباديء ثورية ومن مقاتلين أشداء نازلوا صداما لسنوات طويلة في حرب عصابات أنهكته وإنتهت بتحقيق النصر بتحرير كردستان وبناء تجربة الأكراد في حكومة وبرلمان أقليم كردستان وأصبح الشعب الكردي جراء ذلك أحد أهم أطراف العملية السياسية في العراق الجديد وشريكا فاعلا في الحكومة.

آذار والاكراد 2-5

شيرزاد شيخاني

[email protected]